لعنة الجغرافيا: لبنان بين سوريا وإسرائيل

إيلي حليحل
إيلي حليحل

احتلَّ الكيانُ اللبناني موقعاً متقدِّماً في قائمة المسائل الخلافيّة التي لم يتوقَّفْ النقاش حولها بين اللبنانيّين. حتّى مراكز الدراسات على اختلافها، لم تُجمِعْ إطلاقاً على تعريفٍ واحدٍ للهويّة، فضلاً عن الإطار الجغرافي ونهائيّة لبنان الدولة والكيان.

تندلعُ مجدّداً الاشتباكات السياسيّة بين مكوِّنات المجتمع اللبناني، المدفوعة باعتبارات خارجيّة، ويرتفعُ منسوبها في غمرة الأحداث والتطوّرات الإقليميّة والدوليّة، المتلازمة محليّاً مع الانهيار الاقتصاديّ والماليّ الدرامي.

في هذه القراءة نحاول المناقشة بين حدّيْن: الأوّل يُسلِّطُ الضوء على السياق التاريخي لتَشَكُّلِ الكيان اللبناني. والحدُّ الثاني يتمثَّلُ في الجغرافية السياسيّة كعلمٍ حديث، كفيلٍ بتمكين القارئ من إعادة النظر في هذه المسألة، من زاوية موضوعيّة ومنطقيّة.

المُعطى الجغرافي

في نظرة سريعة إلى خريطة لبنان الحاليّة نلاحظ الميزات التالية:

1- الشاطئ كمنشأ لممالك فينيقيّة مُنفتحة على العالم القديم تجاريّاً وحضاريّاً. 2- السلسلة الشرقيّة والسلسلة الغربيّة كحاجزٍ طبيعي عن البادية.

3- جبل لبنان، ملجأ الأقليّات القادمة من الجوار الإقليمي طيلة الحقبات التاريخيّة الثلاث.

إنّ المعطى الجغرافي هذا، معطوفٌ على حراكٍ عسكري في منطقة تعجُّ منذُ التاريخ القديم بقوى كبرى، جعل لبنان جزءاً من صراعها عند كُلِّ تحوُّلٍ في أحجامها وعواملها الجيوسياسيّة. ومن البديهي أنْ يقع لبنان (ولاسيّما ساحله) ضمن مجالها الحيويّ وحركتها التوسُّعيّة.

تجمّعت عناصر ثقافيّة كثيفة نتيجةً لهذا الاحتكاك والحراك السكّاني. ونستنتجُ ممّا تقدّمَ ذكرهُ، ونتفهَّم أيضاً، ذهنيةَ اللبناني المُتشبِّث بجبل لبنان وبالحريّة من جهة، كما بالانفتاح على الغرب انطلاقاً من شاطئه من جهةٍ أخرى. ويبدو واضحاً تنوُّع مكوِّناته في الثقافة السياسيّة والاجتماعيّة، وصولاً إلى حدِّ التناقض في الفكر، أفراداً وجماعات.

ليس كياناً مُصطنعاً

لم تبلغ أيٌّ من الأوطان شكلَها الحالي بين ليلةٍ وضحاها. وما يُعرَف اليوم بمفهوم الدولة والحدود المُعترف بها دوليّاً، بدأ يتبلور عمليّاً (وخصوصاً في أوروبا) انطلاقاً من النصف الثاني من القرن التاسع عشر، وترسَّخَ بعد الحربين الكبرييْن في إطار عصبة الأمم فالأمم المتّحدة.

في الواقع، لم يشذُّ لبنان عن هذه القاعدة، بل سلك سياقاً تاريخيّاً متعرِّجاً وعصيباً، قبل الولادة القيصريّة المُنبعثة من الظروف والوقائع السياسيّة والعسكريّة المعروفة من الجميع (تحديداً في التاريخ المعاصر). ومهما تفاوتت نظرة اللبنانيين واختلفت حول ماهيّة الدولة ونظام حكمها، لا يجوزُ إطلاقًا التشكيك بنهائيّة الكيان اللبناني وحقِّه بالوجود والاستمرار.

لعنة الجغرافيا

ترتكز الجغرافية السياسيّة على عناصرَ ثلاثة: الرقعة الجغرافيّة، موقعها، العنصر البشري. ولأنَّ مقالة واحدة لا تتّسع للغوص في الجغرافية السياسيّة أو الجيوسياسة، نكتفي بتسليط الضوء على موقع لبنان وموضعه الجغرافي. يقع لبنان، لحسن الحظ ولسوء الحظ في آنٍ معاً بين فكَّي كمّاشة (سوريا وإسرائيل). وهو يشبه معظم الدول (باسثناء الكيان الصهيوني) ولا يشبه أحداً في الوقت نفسه. يُشبه مثلاً دولاً عربيّة عدّة من حيثُ التنوُّع الطائفي، ويختلف بنظامه السياسي عن الأنظمة التوتاليتاريّة (سوريا). وبالتأكيد يُعدُّ نقيضاً للكيان الإسرائلي العنصري، ويُعَرّيه.

ينبغي في هذا السياق استدعاء مفهومٍ علميّ جيوسياسي يصف الدولة بالكائن الحيّ، وبالتالي يؤدّي نموّها إلى توسّعها على حساب جيرانها. في الواقع، إنّ النوايا المضمرة تجاه لبنان من قِبَلِ جاريْه، تُرجِمَت بحروب القضم والضم على مدى ثمانية عقود تقريباً.

منعطف تاريخي ومحطّات

العام 1948، فلسطين، دوّى انفجار إقليميّ ضخم بإعلان دولة إسرائيل. طالت شظايا النكبة دول الطوق، تلتها النكسة في العام 1967، فاندفعت على مرحلتيْن قوافل اللاجئين إلى لبنان ودول الجوار. انقسمَ اللبنانيّون عموديّاً حيالَ القضيّة الفلسطينيّة، وبدأت الدولة تفقد سيطرتها مع انطلاق عمليّات المقاومة الفلسطينيّة ضدّ إسرائيل “فتح لاند” فاتّفاق القاهرة العام 1969، حتّى اضمحلّت سيادة الدولة تماماً مع اندلاع الحرب الأهليّة في العام 1975 لمصلحة دولة “منظمة التحرير الفلسطينيّة” ودول الميليشيات ضمن الدولة اللبنانيّة المنهارة والمنقسمة على ذاتها على شاكلة الانقسام الطائفي.

لكنَّ نقطة الارتكاز هنا، تكمنُ في عرض الظروف الإقليميّة وتحديد هويّة اللاعبين على الساحة اللبنانيّة. ونظراً الى كثافة اللاعبين والمتدخِّلين في مسار الحرب الهجينة، سوف أكتفي بتناول كبار اللاعبين.

على المستوى الدولي

انقسم عالم ما بعد الحرب العالميّة الثانية إلى معسكريْن. وتلا الانقسام، اقتسام مناطق النفوذ الدولي بين الاتحاد السوفياتي وحلفائه (حلف وارسو) من جهة، والولايات المتّحدة الأميركيّة وحلفائها (حلف شمال الأطلسي) من جهة ثانية. أرخى الصراع الجيوسياسي المعروف آنذاك بالحرب الباردة بظلاله إقليميّاً على الصراع العربي – الإسرائيلي. قدّم الاتحاد السوفياتي دعماً عسكريّاً لدول الطوق، فيما وفّرت الولايات المتّحدة دعماً مطلقاً لاسرائيل. لم يسلم لبنان في خمسينيّات القرن الماضي من هذا الصراع، لأنّه وقع في الرقعة الجغرافيّة الضبابيّة جيوسياسيّاً، واستمرّ صراع الجبّاريْن حتّى سقوط الاتحاد السوفياتي.

وإذ لم ينخرط لبنان في حلف بغداد، نشب صراع سياسي بين فريقٍ مؤيِّد للرئيس جمال عبد الناصر وفريق آخر متحالف مع الغرب. كادت القلاقل أن تودي بلبنان إلى حربٍ أهليّة، قبل أن يطلب الرئيس كميل شمعون مساعدة عسكريّة من الأميركيّين الذين تدخّلوا وأعادوا الأمور إلى نصابها العام 1958. بقيت النار تحت الرماد وتجسّد الصراع هذا على الساحة اللبنانيّة إبّان الحرب الأهليّة في تقديم المساعدة العسكريّة واللوجستيّة لطرفيّ النزاع.

إقليميّاً

كانت ولا تزال سياسة العدو الإسرائيلي التوسُّعيّة خطراً على لبنان، وهي لا تحتاج إلى قرائن وبراهين. لكنَّ الخطر الأدهى والأعظم، تمثَّل في القوى التي تذرّعت أو استغلّت أو تظاهرت بمقاومتها وقتالها إسرائيل من أجل السيطرة على لبنان واتّخاذه وطناً بديلاً كما فعلت منظّمة التحرير الفلسطينيّة، كذلك الأمر حاولت القيادة السوريّة ابتلاع لبنان بالكامل. وقد اتّبع النظام السوري لتحقيق هدفه الخطوات التالية:

1- إحداث توازن بين طرفيّ الحرب الأهليّة، عبر التدخُّل العسكري.

2- التحكُّم بالمقاومة وانتزاع قيادتها من الرئيس ياسر عرفات.

3- فرض هيمنة طويلة الأجل على لبنان، واستخدامه كورقة تفاوض وتقاطع مصالح مع الأميركيّين. والجديرُ ذكره اعتبار القيادة السورية دولة لبنان خطأً تاريخيّاً ينبغي تصحيحه.

لم يُسلِّم اللبنانيّون (ولاسيّما المسلمون) بالاحتلال الإسرائيلي وقاوموه حتّى طردوه. كما لم يخضعوا (ولاسيّما المسيحيّون) للهيمنة السوريّة العسكريّة والسياسيّة بل قاوموها بمختلف الوسائل. اللافت في الأمر، أنَّ الحرب الأهليّة بين المكوِّنيْن، وعلى بشاعتها، وزّعت أدوار المقاومة في ما بينهم دونما اتّفاق.

أطبق النظام السوري هيمنته سياسيّاً وعسكريّاً على لبنان مع انتهاء الحرب الأهليّة على الرغم من اتّفاق الطائف الذي رعته بصدق المملكة العربيّة السعوديّة إلى جانب سوريا وأميركا. لقد توخّت المملكة من هذا الاتّفاق تأمين مظلّة إقليميّة ودوليّة لإخراج لبنان من النظام الطائفي على مراحل، وبناء دولة مؤسسات قويّة، فضلاً عن تحريره من الاحتلال وسحب الجيش السوري كما جاء في نصّ الطائف، وصولاً إلى حصر السلاح بيد الدولة اللبنانيّة وتحييدها عن الصراعات كافة.

للأسف طبّقت القيادة السوريّة اتّفاق الطائف انتقائيّاً، وتفرّدت في قراراته الأمنيّة والسياسيّة حتّى استشهاد الرئيس رفيق الحريري وانسحاب الجيش السوري من لبنان في العام 2005.

الفترة الفاصلة بين انتهاء الحرب وانسحاب الجيش السوري، منحت القيادة السوريّة وقتاً كافياً لحصر سلاح المقاومة بـ “حزب الله” وتصفية التشكيلات الأُخرى. وجاءت هذه الخطوة نتيجةً لتحالف استراتيجي مع إيران. وما بدأه النظام السوري، استكملته إيران عبر سياستها التوسُّعيّة وبواسطة نشر أذرعها العسكريّة في الدول العربيّة.

باختصار شديد، في خضمّ الحرب السوريّة ومشاركة “حزب الله” فيها، حرص على تأمين طريق الإمداد البياني من بيروت إلى طهران. والوهن الذي أصاب النظام السوري بعد الحرب، أدّى إلى انتقال الوصاية على لبنان إلى “حزب الله” وبالتالي أصبح ورقة بيد القيادة الإيرانيّة، تحت اللافتة والعنوان والذريعة ذاتها، أي إزالة إسرائيل من الوجود وحماية لبنان ونصرة الفلسطينيّين والقدس. في الحقيقة ما جرى هو تعاظُم النفوذ الإيراني في سوريا على حساب الحضور العربي، كما حصل في العراق وفي اليمن تماماً.

يعاني هذا الوطن الصغير من ضعف المناعة، وأبوابه مُشرَّعة للمشاريع الخارجيّة. ولا يحتاج الى التمحيص والتدقيق، تخلّي الدولة وتقاعسها عن ممارسة وظيفتها في نزع السلاح غير الشرعي وحصره بالقوّات المسلّحة اللبنانيّة، كما بحفظ السيادة وواجبها في الإمساك بقرار الحرب والسلم.

لم تتوقّف الضغوط والخطوات العمليّة لحشرِ لبنان في محورٍ مُدمِّرٍ لصيغة لبنان ومستقبله السياسي، ناهيك عن إخراجه من العباءة العربيّة وعزله عن المجتمع الدولي.

في إطلالة سريعة على الحرب الروسيّة على أوكرانيا، إنَّ ما يجري هناك هو صراع جيوسياسي بين روسيا وحلف الناتو على الساحة الأوكرانيّة (التي تدفع ثمن موقعها الجغرافي أيضاً) باعتبارها مجالاً حيويّاً بالنسبة الى روسيا وأمنها القومي، وأداةً لتطويق روسيا بالنسبة الى الولايات المتّحدة الأميركيّة. تشي الحرب الدائرة هناك أيضاً، بصراع طويل الأمد شبيه بالحرب الباردة، وأرجو ألّا يطال مناطق نفوذ قريبة من لبنان مثل سوريا حيثُ تتواجد قوّات روسيّة وأميركيّة.

وجديرٌ ذكره، أنَّ أيّ اهتزاز إقليميّ سينعكسُ سلباً على لبنان، أكان سياسيّاً أو اقتصاديّاً أو عسكرياً. ولا يخفى على العارفين بالجيوسياسة، أنَّ صراعاً من هذا النوع سيؤدّي إلى تحريك وإزالة حدود في أكثر من دولة واقعة على الخطوط الملتهبة.

لا ندعو إلى الاستسلام أو اليأس من الواقع المأساوي، بل إلى مزيدٍ من الاصرار على تحييد لبنان عن صراعات الآخرين. وإذ يستحيل تغيير موقع لبنان وموضعه الجغرافي، تبقى المقاومة السلميّة الوسيلة الأمضى في مواجهة لعنة الجغرافيا.

شارك المقال