“المساكنة” السياسيّة وتقرير البنك الدولي!

رامي الريّس

في منتصف الثمانينيات، عندما تولى جاك شيراك رئاسة الوزراء في فرنسا في عهد الرئيس فرنسوا ميتران، ساد القلق من إمكانيّة التعايش بين الرجلين نظراً لاختلاف خلفياتهما السياسيّة والعقائديّة ونظراتهما المتباعدة لكيفيّة إدارة شؤون البلاد. وفي العام 1995، وبعد انتخاب شيراك إلى الرئاسة الأولى، انقلبت الأدوار مع تكليف القيادي الاشتراكي ليونيل جوسبان رئاسة الوزراء.

وبناءً على هاتين التجربتين، وُلد مصطلح “المساكنة” في الحياة السياسيّة الفرنسيّة، ونُشرت المئات من المقالات في كبريات الصحف الفرنسيّة مثل “لو فيغارو” و”ليبراسيون” و”لوموند” وسواها لتحليل فرص النجاح في التقارب بين الرجلين في كلا المرحلتين اللتين شهدتا تطورات هامة على صعيد الداخل الفرنسي وعلى صعيد علاقات باريس الدوليّة ودورها في المجال العالمي وأزماته المتلاحقة.

صحيحٌ أنه لربما كان من الأفضل لميتران أن يحظى بأكثريّة برلمانيّة مريحة تتيح له إكمال ولايته دون الشراكة القسريّة مع شيراك، والأمر نفسه ينطبق على شيراك بعد انتقاله إلى قصر الإليزيه؛ ولكن في نهاية المطاف، هذه كانت الخيارات التي أفرزتها صناديق الاقتراع. فالاحتكام إلى الديمقراطيّة لا يمكن أن يكون اعتباطيّاً أو جزئيّاً، أي أن تقبل بنتائجها عندما تتماشى مع مصلحتك السياسيّة وتتغاضى عنها عندما تتناقض معها. تعايش الرجلان، وسارت القضايا الوطنيّة والسياسيّة في فرنسا بشكل انسيابي وطبيعي.

النظام السياسي الفرنسي هو شبه رئاسي وليس رئاسيّاً بالكامل، دون أن ينتقص ذلك من دور رئيس الجمهوريّة المحوري في الحياة السياسيّة وهو الذي يُنتخب مباشرة من الشعب وليس من الجمعيّة الوطنيّة (أي البرلمان) أو أي جهة أخرى.

مهما يكن من أمر، فإن الهدف ليس مقارنة النظام الدستوري الفرنسي مع نظيره اللبناني، وهو الذي بُني أساساً عليه في الكثير من أحكامه منذ حقبة الانتداب الفرنسي (1920- 1943)، وقد عُدّل مرات ومرات في فرنسا دون أن يحصل ذلك في لبنان بما يؤدي إلى تطوير صيغته السياسيّة لتعكس الشراكة الحقيقيّة والمساواة بين المواطنين والغاء الطائفيّة السياسيّة.

لبنان كان ولا يزال محكوماً بالتوافق، لا أحد يستطيع أن يلغي أحداً مهما بلغت قوته سياسيّاً أو عسكريّاً أو ميدانيّاً. من هنا، لا يمكن التبرير لكل الخطوات التي يمكن أن تتخذ من هذا الطرف أو ذاك بما يتناقض مع هذا التوجه، أو يخرّب هذه المعادلة التي أثبتت كل التجارب أن التلاعب بها يولّد عواقب وخيمة على أكثر من مستوى.

ليست تجربة التأليف الحكوميّة المريرة هي المثال الوحيد الذي يمكن البناء عليه في هذا الإطار، إنما كل الخيارات التعطيليّة التي انتهجت منذ سنوات، في معظم الاستحقاقات، وعند المفاصل الأساسيّة لدرجة أصبح الشلل هو القاعدة والتفعيل هو الاستثناء. فكيف يمكن استمرار البلاد في ظل ظروف طبيعيّة على هذه الأسس؟ فكم بالحريّ عندما تمر البلاد في أكثر الأزمات الاقتصاديّة ضراوة منذ مئة وخمسين سنة؟

تُرى، ألم يقرأ البعض تقرير البنك الدولي؟ كيف كان ليتعاطى معه ميتران وشيراك وجوسبان؟

شارك المقال
ترك تعليق

اترك تعليقاً