طابخ السم “الميثاقي”… آكله!

ياسين شبلي
ياسين شبلي

ينطبق هذا القول أكثر ما ينطبق هذه الأيام على “الثنائي الماروني القوي” الذي يدَّعي المظلومية في إنتخابات الرئاسة، الأول بداعي حرمانه حقه في أن يكون المرشح الأوحد باعتباره “الأقوى”، والآخر يتباكى على الديموقراطية ويحارب “الورقة البيضاء”، في الوقت الذي لم يمضِ وقت طويل بعد على وضع هذا الثنائي “ورقة بيضاء” في صندوق تسمية رئيس حكومة سني، وكأنه لا يوجد من ضمن أكثر من مليون سني لبناني واحد يستحق أن يكون رئيساً للحكومة، من دون أن ننسى طريقة هذا الثنائي في التعامل مع “السني القوي” بشعبيته وإعتداله في البلد بخلاف تعامله مع “الشيعي القوي” بسلاحه، وطريقة مشاركته في “أكله” من دون أن يعي أنه إنما كان “يأكل” نفسه ويلغيها عندما شارك في إفراغ الساحة من الاعتدال وصوت الحكمة والعقل، والتضحية بالذات في سبيل المشاركة الحقيقية بين المسلمين والمسيحيين، وكذلك عندما لم يستوعب شعار الرئيس الشهيد رفيق الحريري حينما قال بأن “المسيحي المعتدل أقرب إليَّ من المسلم المتطرف”، هذا الشعار الذي طبّقه بأمانة وسار على هديه وريثه الشرعي والوطني والأخلاقي الرئيس سعد الحريري، فكان أن طُعِنَ من المتطرف القريب والبعيد.

لا نقول هذا من باب الشماتة بأحد – لا سمح الله – فكلنا في الهم “شرق”، ولكن لنقول بأن الصراع الماروني – الماروني على رئاسة الجمهورية كان دائماً في أساس مشكلات هذا البلد، خصوصاً في فترة ما بعد الحرب وإتفاق الطائف الذي حاول أن يخفف من حدة هذا الصراع بجعل القرار في مجلس الوزراء – لا بيد رئيس الوزراء كما يدَّعي المغرضون -، ما جعل البلد يدفع ثمن هذا الصراع ويدخل في ثلاجة التعطيل أقله منذ العام 2008 تاريخ دخول “التيار الوطني الحر” السلطة بـ “عضلات حزب الله”، الأمر الذي أعاد البلد إلى حرب المزايدات بين القادة الموارنة ما أجَّج وأعاد إنتاج الحالة الطائفية التي كانت قد خبت لفترة قصيرة في أعقاب “ثورة الأرز”، لاسيما في ظل إحتقان مذهبي كان سائداً بين السنة والشيعة على خلفية الأحداث بعد إغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري.

بدأ هذا الصراع الماروني بنسخته الجديدة – القديمة منذ أول حكومة للرئيس سعد الحريري بعد إنتخابات 2009، عندما بدأ “التيار الوطني الحر” يسعى وبدعم من شريكه في إتفاق مار مخايل “حزب الله” الى الاستيلاء على أكبر عدد من حصة الموارنة في السلطة بحجة أنه الأقوى، ما دفع “القوات اللبنانية” – التي باتت مواقفها منذ ذلك الوقت مجرد رد فعل وصدى لمواقف التيار – إلى مزاحمة وزراء الرئيس الحريري من المسيحيين وقضمهم بحجة صحة التمثيل، في الوقت الذي بدأ الثنائي الشيعي بقضم حصته من الوزراء الشيعة – وهنا كانت غلطة الرئيس الحريري بقبوله هذا الواقع بغض النظر عن نواياه – فكان أن عاد الفرز الطائفي من باب “الميثاقية” هذه المرة وبإسمها بفعل المزايدة بين الطرفين في كل مرة يكون فيها إستحقاق سياسي ووطني يستغله جبران باسيل للتصعيد والتحريض، فتلاقيه “القوات اللبنانية” بتصعيد أكبر، وتتلاقى معه ولو من باب الخصومة، وهو ما حصل مؤخراً بسبب إنعقاد جلسة الحكومة فقامت الدنيا “المارونية” ولم تقعد بعد، ويحصل اليوم في موضوع الحوار – بغض النظر عن جدواه – بإسم حقوق المسيحيين وصلاحيات رئيس الجمهورية التي إستولى عليها رئيس الحكومة، من دون أن يدري أحد أو يوضح ما هي الحقوق المسيحية التي مُست أو القرارات التي مَست حقوق المواطن المسيحي بإنعقاد جلسة الحكومة، وعن أي صلاحيات يتحدثون تلك التي إستولى عليها رئيس الحكومة وهم الذين يشتكون دوماً من عدم وجود هذه الصلاحيات؟!

كل هذه التصرفات التي لطالما غلَّبت المصلحة الحزبية التكتيكية على المصلحة الاستراتيجية الوطنية العليا، هي التي أوصلت البلد إلى ما هو عليه اليوم، وهذا لا يعني أن الأطراف الأخرى بجميع مكوناتها بريئة من دم هذا الوطن ودموعه، لكن هذا الصراع الماروني الداخلي والمزايدات التي تتخلله يترك تداعياته الطائفية والسياسية على الأوضاع في البلد، ما يولِّد إحتقاناً لا يلبث أن يبحث عن أي سبب ولو تافه لتنفيسه كما حصل مؤخراً في الأشرفية على خلفية “المونديال” بسبب تصرفات وإن كانت غير سوية، إلا أنها طبيعية جداً وتحصل في كل البلدان الطبيعية التي لا تنام وتفيق على تحريض طائفي ومبالغات بالحديث عن حقوق مسلوبة وصلاحيات مصادرة، لكنها للأسف تصبح إستفزازات طائفية في بلد حقوق المواطن فيه بكل فئاته مسلوبة، وصلاحياته للتعبير والتغيير مصادرة، بنعرة طائفية مذهبية يتغذى منها أفرقاء عبر تحويلها إلى سموم يطبخونها ويحقنون بها جسد الوطن وعقل المواطن البسيط، الذي يصنعون له سجناً من أوهام عبر إرهابه وتخويفه من الآخر ليسهل عليهم “تغذيته” بها، ناسين أو متناسين سواء عن جهل أو غرور، بأن طابخ السم لا بد آكله ولو بعد حين، عندما تتغير المصالح وتضيق الخيارات وتتبدل الظروف، وهذا ما هو حاصل اليوم مع “الثنائي الماروني” القوي على الوطن ومصالحه، الضعيف أمام مصالحه وغاياته السلطوية سواء الحزبية منها أو الشخصية، عندما سيضطر سواءً عاجلاً أم آجلاً بسبب من غروره المَرَضي وعجرفته السياسية الى الأكل من الطبق المسموم نفسه الذي طبخه مع سواه من “طباخي” السياسة اللبنانية لاعتقاد كل منهم أنه لمصلحته، ليأتي الطبق الرئيس هذه المرة أيضاً وكما جرت العادة “ديليفري” من الخارج وبنكهة غير لبنانية، ويكتشف الجميع أن مهمتهم في هذا البلد محصورة بأكل ما يطبخه الآخرون من “تسويات” تدفع فاتورتها للأسف من حاضر ومستقبل الشعب اللبناني الذي سيبقى يدفع ثمن إنسياقه الأعمى وراء هذه الأحزاب والزعامات السامة، حتى يقضي الله والشعب نفسه أمراً كان مفعولا.

شارك المقال