لبنان الجامد في الزمن المتحرك!

ياسين شبلي
ياسين شبلي

ينقضي عام ويأتي آخر، ولبنان هو لبنان، ينام ويصحو على الأحداث والوجوه والأخبار نفسها، بلد بات خارج الزمن الذي بدوره يتحرك بسرعة فائقة تاركاً للآخرين خيار اللحاق به من عدمه، فيتحرك معه العالم المتحضر فكراً وممارسة، سواء كان في السياسة أو الاقتصاد أو الاجتماع أو الثقافة، ويتخلف عن ركبه أهل “الجمود” في الفكر والممارسة وفي كل المجالات كذلك، بحيث يتلطون ويتمترسون في تبريرهم لهذا التخلف خلف شعارات جامدة أكل الدهر عليها وشرب.

ففي الوقت الذي لا يزال العالم مثلاً، يتحدث بفرح وإعجاب عن “مفاجأة” نجاح قطر في تنظيم كأس العالم لكرة القدم بصورة حضارية ونجاح إنساني كبير، وعلى أعلى مستوى من الاحترافية والجمال ما ترك أثراً إيجابياً كبيراً على سمعة قطر والمنطقة العربية عموماً، وفي الوقت الذي تُقِرْ المملكة العربية السعودية ميزانية تُقَدَّر بـ 297 مليار دولار للعام 2023 – لبنان لا يزال يناقش ويطعن بموازنة 2022 -، وقانوناً يسمح للمرأة بالحج من دون مَحرم، وهو قانون يعتبر قمة في الثورية والتقدمية في البلاد نسبة الى المقاييس المعتمدة سابقاً، وغيرها الكثير من الانجازات في المنطقة والعالم، في هذا الوقت يدخل لبنان العام 2023 كما خرج من العام 2022، من دون أي تغيير يذكر في أي من المجالات لا في الفكر الجامد المُتَّبَع، ولا في الممارسة العقيمة في مقاربة الأمور والمشكلات، هذه الممارسة التي أوصلت البلد إلى ما هو عليه اليوم.

بدأ العام بخطاب الأمين العام لـ “حزب الله” السيد حسن نصر الله المؤجَل من العام الماضي، والذي جاء بعد زيارة وفد من “حزب الله” الى بكركي، تطرق فيه إلى حديث الساعة في لبنان ألا وهو موضوع الانتخابات الرئاسية وتداعياتها على علاقات حزبه مع “التيار الوطني الحر”. صحيح أن ظاهر الخطاب وجَّه رسائل إلى كل الأطراف، إلا أنه ترك إنطباعاً بأنه إنما كان يتكلم مع “الجارة” التي هي هنا الأطراف السياسية المعارضة تحديداً، ليُسمِع “الكنة” التي هي “التيار الوطني الحر” ورئيسه جبران باسيل، خصوصاً عندما أعلن أن من ينتظر الحلول من الخارج – وباسيل الأكثر سعياً في الخارج عبر قطر – سواء عبر حل أميركي – إيراني أم سعودي – إيراني، إنما يضيّع الوقت على نفسه وعلى اللبنانيين، داعياً إلى “التوافق” الداخلي وكأنه بذلك يقول بأن “التفويض والأمر لي” في موضوع الانتخابات الرئاسية، تماشياً مع التجارب السابقة مع “حزب الله” وطريقة فهمه للتوافق الذي يعني في غالبية الأوقات الرضوخ لخياره كما حصل عام 2016 عند إنتخاب ميشال عون. كذلك الأمر في موضوع التفاهم بين الحزب والتيار بعد التطورات الأخيرة إذ بدا أيضاً وكأن السيد نصر الله يطرح التحدي على باسيل إن كان بإستطاعته الخروج من التفاهم، بقوله إن الحزب لا ينزع يده من يد حلفائه إلا في حال نزعوها هم، وكأني به يقول له هل بمقدورك – يا باسيل – أن تنزعها؟.

فضلاً عن خطاب نصر الله، كان هناك أيضاً السجال “الكهربائي” الذي إندلع فجأة على جبهة الـ “نون – نون”، أي نجيب وندى على خلفية السلفة المخصصة للفيول والبواخر الراسية في البحر بإنتظار فتح الاعتمادات، وهو السجال الجديد – القديم الذي بات كقصة “إبريق الزيت”، وحرم لبنان من ساعات تغذية قليلة كانت متبقية وأدخله في عتمة شاملة.

كذلك افتتح العام بالحديث عن الوفد القضائي الأوروبي، القادم إلى لبنان للتحقيق في جرائم مالية خاصة بتبييض الأموال تمت في لبنان أو عبر بعض مصارفه، وهو ما دعا “متعهد جهنم” الرئيس السابق ميشال عون، إلى “نعي” القضاء اللبناني والحديث عن “الفساد” فيه، كما سبق له إبان رئاسته أن نعى قدرة الجيش اللبناني على مواجهة إسرائيل، بطريقة توحي وكأنه شخص قادم من كوكب آخر، أو كأنه مرشح مستجد لرئاسة الجمهورية وليس رئيساً سابقاً للجمهورية لم يمضِ على تركه منصبه سوى شهرين ونيف.

وعلى طريقة الرئيس السابق، اختتم الأسبوع الأول من العام الجديد بتصريح لنائب الأمين العام لـ “حزب الله” الشيخ نعيم قاسم يطمئن “فيه اللبنانيين، بأنه عاد من زيارة لايران وبأن الوضع هناك مستقر ومستتب ولا داعي للقلق بشأنه” على طريقة “ما في شي بحمص”، هذا في الوقت الذي كان سعر صرف الدولار الأميركي يتخطى الـ 45 ألف ليرة، والطوابير عادت إلى محطات الوقود وأمام المصارف لمحاولة الاستفادة من “فتات” نظام “صيرفة”، بينما أسعار السلع كافة من مواد غذائية إلى أدوية تحلق عالياً مع كل “طالع شمس” كما يقال، تبعها أمس رفع الدعم نهائياً عن حليب الأطفال المفقود أصلاً من الأسواق.

هذه حصيلة الأسبوع الأول من العام الجديد 2023، وهي حصيلة ليست مفاجئة على أية حال، لكنها تؤكد حال الجمود و”الكربجة” التي يعانيها لبنان، وتعمِّق حال الفراغ الذي قد يجد إذا ما طال أمده، من يملؤه بأحداث وتطورات سواء أمنية أو إجتماعية قد تنجم عن حال الانسداد السياسي، وتؤكد مرة جديدة أن البلد يفتقر إلى “رجال دولة” يحتاجهم أكثر من حاجته إلى “رجال سياسة” وما أكثرهم، وما أشبههم بوكلاء تفليسة أو حفاري قبور ووكلاء دفن موتى، يتحلقون حول “جثة وطن” يساومون عليه، ويجرون المناقصات والمزايدات في سعيهم الى الفوز بصفقة دفنه، يقدمون العروض ويستنفرون الغرائز الطائفية حتى في طريقة الدفن، فمنهم من يريد الدفن على الطريقة الاسلامية ومنهم من يريده على الطريقة المسيحية، ولا نستبعد أن يتفقوا في النهاية على طريقة “توافقية” للدفن حفاظاً على “الميثاقية” وصيغة “الموت المشترك”.

لم يعد هناك ما يقال للأسف في ظل هذه الأوضاع، إلا كما قالت مؤخراً واحدة منهم في غمرة سجالها مع الآخر وهي لم تزل “حية” ولم تمت، بأن “إللي إستحوا ماتوا في لبنان”، ونحن نزيد ونقول بأن شر البلية ما يضحك، لكنه للأسف ضحك كالبكاء.

شارك المقال