عندما يُفتقد الحريري

عاصم عبد الرحمن

عامٌ مضى على تعليقه العمل السياسي التقليدي، إلا أن الرئيس سعد الحريري لا يزال الرقم الصعب في المعادلة السياسية وطنياً وسنياً، فهو وإن قرر عدم التدخل في الاستحقاقات اللبنانية الراهنة انسجاماً مع قراره الصوم السياسي المؤقت، إلا أنه يُستحضر وبقوة عند قارعة كل استحقاق مصيري. فما الذي يدفع الخصوم قبل الحلفاء إلى افتقاد الحريري كلما اشتدت رياح الأزمات العاتية؟

يأبى التاريخ إلا أن يعيد نفسه، لكن هذه الجولة لم يتأخر طويلاً كي يكرر أسطوانته، ففي العام 1992 بدأت مسيرة الرئيس الشهيد رفيق الحريري الذي تولى مسؤولية بناء لبنان المهدم على المستويين البشري والحجري. لم تكن رسالته الكبيرة سهلة التنفيذ، فقد واجه جبالاً من المعارضات السياسية والمشاكسات الشخصية علّها تحرجه فتخرجه من المعادلة اللبنانية، إلا أنه ازداد توهجاً إثر نجاحه في نقل لبنان واللبنانيين من واقع الدمار والتخلف إلى عالم الإعمار والتقدم.

وعلى الرغم مما كتبه رفيق الحريري من قصة نجاح غير مسبوق في بناء دولة حديثة، كان هناك مَنْ أصر على إحراق تجربته الفريدة عبر تحطيم جسده أملاً بإنهائه في النفوس والنصوص إلا أن غيابه المرير عزّز حضوره الكبير، فعند أول استحقاق مصيري وفي ليالي حرب تموز 2006 الظلماء افتُقد بدر رفيق الحريري الذي كان يجول عواصم العالم فلا تهدأ طائرته ولا تكنُّ نفسه حتى يتمكن من نزع “حزب الله” عن لائحة الإرهاب الدولي، وحين استفاق اللبنانيون ذات صباح ليجدوا أنفسهم غارقين في مقاطعات لبنانية مقطعة الأوصال نتيجة ما خلفته صواريخ العدو الاسرائيلي افتقدوا مَنْ أعاد وصل اللبنانيين بأنفسهم ووطنهم ذات يوم مزقت فيه الحرب الأهلية الإنسان والوطن وكل شيء. وفي مختلف المحطات المفصلية افتُقد رفيق الحريري، افتقد الأب غربة أبنائه يوم رحلوا على أجنحة الأزمات التي عصفت بهم، افتقد الأخ أشقاءه يوم هجرهم الفقر والجوع واليأس حتى داخل بلدهم، افتقد الوطن حارسه يوم غرق في متاهة الأزمات السياسية واعتقلت الديموقراطية واغتيل الدستور واستعرت الطائفية وهُشمت المؤسسات وأُسقطت هيبة الدولة وانتشر السلاح غير الشرعي… افتُقد رفيق الحريري يوم غادر الأمل نفوس اللبنانيين مسلمين ومسيحيين.

أما اليوم وعلى وقع الانهيار السياسي والمالي والاقتصادي والاجتماعي وحتى الإنساني – الوطني غير المسبوق في تاريخ لبنان والعالم – فيفتقد خصوم الرئيس سعد الحريري قبل حلفائه وأصدقائه حتى هؤلاء الذين ضحكوا في سرهم جراء تعليقه العمل السياسي، وجوده ضمن المعادلة السياسية اللبنانية خصوصاً لدى استشعارهم الخطورة التي تلفح الشراكة الوطنية. فعندما علق الحريري الابن عمله وتياره في السياسة وترجمه إحجاماً عن الترشح للانتخابات النيابية المنصرمة، اعتقدوا أن الساحة باتت متاحة لاقتناص الجمهور والزعامة والمكانة.

حاول رئيس “التيار الوطني الحر” جبران باسيل وعبر دار الفتوى إيصال رسائل إلى سعد الحريري مفادها أن المعادلة الوطنية افتقرت إلى ركنها الأساس لأن طبيعة لبنان التعددية لا تتوافق والحكم الأحادي طائفياً أو سياسياً أو غير ذلك وهو ما أدركه متأخراً حتى أضاعت رسالته بريدها.

وبالأمس القريب عبَّر رئيس حزب “القوات اللبنانية” سمير جعجع عن افتقاده وجود سعد الحريري على أثر اشتداد الأزمات اللبنانية، ذلك أن مقاربته للمشكلات المستفحلة والقضايا المصيرية بحنكة سياسية قوامها الوطنية والشراكة والاعتدال بعيداً عن الطائفية والقوقعة والتطرف.

إذاً، أدركت معظم القوى السياسية اللبنانية وخصوصاً المسيحية أهمية وجود سعد الحريري كشريك سياسي، وزاري وبرلماني والأهم وطني، فالقوى السياسية والنيابية السنية التي أفرزتها الانتخابات النيابية متعددة الاتجاهات والتوجهات وتتوزع بين كتلٍ متعددة وآراء مختلفة، وعجزت عن التحاور مع معظمها فكيف السبيل إلى الاتفاق والتوافق؟

حورب رفيق الحريري حتى الاغتيال فازداد صلابة وقوة ضمن المعادلة الوطنية والسنية إلى أن تحوّل مدرسة في السياسة. حورب سعد الحريري حتى ارتأى صوابية تعليق العمل السياسي إلى حين وضوح الرؤيا المستقبلية فلم يستطع أحد ملء الشغور السياسي الذي خلفه وطنياً وسنياً. ومن الحريري الأب إلى الحريري الابن تستفيق القوى السياسية التي حاربتهما متأخرةً على سوء ما اقترفت أياديها بحق شركاء وطنيين لا يتكررون، إلا أن الذاكرة الشعبية لا تقهرها قوة الغدر بل تزيدها حكمة وعدلاً في الحكم والمحاسبة ووحده التاريخ سينصف الحريرية الوطنية التي أحبت لبنان واللبنانيين حتى الإنصهار الجسدي.

إن البلدان التعددية لا يمكن لها أن تُحكم من قِبل أوليغارشية سياسية، دينية، عسكرية أو غير ذلك، وما أثبت صوابية الشراكة هو غياب الحريري الأب ثم الابن لما شكلاه من حالة استثنائية في الإيمان المطلق بحتمية المشاركة في بناء لبنان التعددي وحكمه، فهل كان المطلوب تجريد السياسة اللبنانية من القوى المعتدلة أم سيكون للشعب اللبناني كلام آخر؟

شارك المقال