هزّة بقوّة الرصاص والرعب في طرابلس

إسراء ديب
إسراء ديب

أيقظت الهزة الأرضية بتردداتها القوّية الناتجة عن الزلزال المدمّر في تركيا الطرابلسيين من نومهم، وسط أجواء مرعبة كانوا عاشوها وكرّستها أكثر من 40 ثانية شعر فيها السكان بالهلع والصدمة من هذه الفاجعة القاسية التي ضربت دولاً في الشرق الأوسط.

لحظات مخيفة أفزعت العائلات التي اندفعت مسرعة إلى الشارع هرباً من احتمال حدوث انهيار أو خوفاً من الأصوات المرعبة التي رافقت هذه الارتعاشات المتتالية بقوّة، منهم من خرج من منزله بلا وعي حفاظاً على روحه، ومنهم من جهّز أوراقه الثبوتية تحسباً لأيّ كارثة قد تدفعه إلى البقاء خارج المنزل الذي لا يُعدّ آمناً أيضاً لا سيما أثناء العاصفة الرعدية المخيفة بشدّة رياحها وبرودتها “اللاسعة”.

إنّها المرّة الأولى التي تتعرّض فيها المدينة لهذا النوع من الهزات في هذه الفترة الزمنية التي شعر فيها الطرابلسيون أنّها “سنة كاملة” من القلق والتوتر، مع العلم أنّ الفيحاء كانت تعرّضت منذ أيّام إلى هزّة لم يشعر بها كثيرون واستمرّت لمدّة 15 ثانية بصورة متقطّعة، لكن لم تكن على الصورة نفسها التي شهدها المواطنون كما اللاجئون الذين فرّوا خائفين مع أطفالهم إلى الشوارع، محاولين التواصل مع ذويهم في سوريا المتضرّرة الأكبر كما تركيا من هذا الزلزال، لكن ووفق بعض اللاجئين فإنّ بعضهم لم يتمكّن من الوصول إلى أهله بسرعة، فيما أكّد البعض الآخر عدم قدرته على التواصل مع الأقارب في سوريا.

وقد أعادت هذه الهزة ملف الأبنية المتصدّعة إلى الواجهة من جديد، خصوصاً وأنّه لم يُقفل في هذه المدينة التي دمّرت بتصدعاتها أرواحاً شابة قتلت بسبب الاهمال الهندسي والرسمي من جهة، وإهمال المواطنين من جهة ثانية وهم يتلقّون غالباً إنذارات عدّة من البلدية تُحذرهم وتحثّهم على ضرورة إخلاء المباني نظراً الى خطورتها لكن “لا حياة لمن تُنادي” ولا تعويض أو بديل يأوي هذه العائلات التي ترزح غالبيتها تحت خطّ الفقر. والمفارقة هذه المرّة كانت بحدوث تصدّعات في مبانٍ حديثة أحدها في المنية، حيث اكتشف قاطنوه ضعف هيكليته وعموده الرئيس الذي لم يُصنع بالشكل الهندسي السليم.

في الواقع، خرج مئات المواطنين الطرابلسيين من منازلهم متوجهين إلى المناطق الآمنة وكان أكثرها أماناً المعرض الذي اكتظ بالسيارات التي توقفت لساعات خوفاً من الارتدادات، وكان معظم الهاربين من القاطنين في المناطق الشعبية حيث توجد الأبنية المتصدّعة، أو سكان الأبنية المرتفعة التي يخشى منها البعض في مثل هذه الكوارث الطبيعية، التي دفعت بعض الأهالي لا سيما من باب التبانة إلى تنفيذ مسيرات وتكبيرات في الشوارع مع إطلاق بعض المواطنين الرصاص الطائش بهدف إيقاظ النائمين خصوصاً في الأبنية القديمة والضعيفة، الأمر الذي أغضب الكثير من المواطنين من خطوة “متسرّعة” وغير مدروسة قد تودي بحياة أحدهم بدلاً من وفاته بسبب الهزة، فيما رأى آخرون أنّ هذا الاجراء كان ضرورياً في المناطق الشعبية التي قد لا يشعر بعض أفرادها بالكارثة المدمّرة بتداعياتها لا سيما حينما لا يشعر بها الانسان منذ اللحظة الأولى.

من هنا، يقول زاهر ع. (45 عاماً) وهو أحد سكان منطقة الزاهرية ومنزله يقع في الطبقة السابعة لـ “لبنان الكبير”: “من شدّة الصدمة والخوف نزلت مسرعاً عبر السلالم إلى المدخل في عزّ البرد، فبعدما شعرت بعدم توازن الأرض التي أقف عليها والاهتزاز المخيف، لم أتمكّن من تفقد أيّ أوراق ثبوتية ولم أفكّر فيها، في تلك اللحظة روحي كانت هي الأهم، وفتحت باب شقتي وركضت بالجوارب التي كنت أرتديها ومن شدّة سرعتي نسيت الحذاء في المنزل”.

ما قام به زاهر، لا يختلف عمّا قامت به عائلات نامت خارج منزلها، منها عائلة سامية ك. اللاجئة السورية التي هربت من إدلب منذ أعوام وتعيش في وادي النحلة – البداوي، تمسّكت بطفلتيْها ونزلت مسرعة متوقّعة الأسوأ، وتقول: “هربنا ونحن نرتدي البيجاما من مبنى ضعيف ومتصدّع وبقينا خارج المنزل حتّى الساعة السابعة صباحاً”، وهو الاجراء نفسه الذي دفع المواطنين لا سيما من باب التبانة، جبل محسن، القبة، والمنكوبين إلى الشوارع بسبب الأضرار المادّية التي لحقت ببعض الأبنية والمنازل كانهيار الجدران كما حصل في منطقة ضهر المغر مثلاً وغيرها من الخسائر.

في سياق متصل، فتحت أبواب المساجد بعد الهزة، واستقبلت المئات من الشبان لأداء الصلاة والدعاء لله تضرّعاً وخيفة وطمعاً برحمة إلهية تُحيط بهم على خلاف الظلم الذي ذاقوا منه المرّ بلا رحمة، واتجه بعض المشايخ إلى مساجدهم للصلاة والدعاء قبل صلاة الفجر في مشهد جامع رآه كثيرون لافتاً للانتباه في هذه الظروف.

ويتحدّث أبو عبد الله (81 عاماً) وهو كان أحد سكان التبانة منذ الثمانينيات، عن هذه الهزة التي لم تشهد طرابلس مثلها من قبل، معتبراً أنّ هذه الأزمات تحتاج إلى يد عون تنتشل المظلومين من تحت أنقاضها. ويقول: “بين العامين 1984 و1985 حصلت هزة لم تكن بقدر قوّة الأخيرة، لكنّها دفعت الناس للتوجه الى الشارع والميناء خوفاً على أنفسهم، لكن ما نستذكره هو حصول هذه الهزة بعد قيام أحد الشبان في التبانة بقتل أخته المظلومة في اليوم عينه، وكنّا نراها إشارة ربّانية الى أنّ الظلم والقسوة قد ينتهيان بضربة إلهية لحظية لا رجوع بعدها أبداً، لذلك نرى أنّ ما يحصل اليوم يلفت إلى هذه القسوة التي تضاعفت قوّتها كثيراً بلا خوف أو تردّد”.

ما بعد الهزّة

بعد شعور المواطنين بهزة خفيفة جديدة وتحديداً عند الساعة الثانية عشرة والنصف من بعد الظهر، عاد القلق والتوتر من جديد إلى قلوبهم وقد احتاروا في اختيارهم: فإمّا البقاء في منازلهم وانتظار ما سيحدث خصوصاً في ظلّ هذا الطقس الممطر والعاصف، وإمّا العودة إلى الشارع الخالي من الحركة بعد هذا الحدث الذي أقفل الأسواق الشعبية القديمة ومختلف المحال التجارية في المدينة التي دخلت حرفياً في مرحلة “السكون” القاهرة.

شارك المقال