“أصفهان”… هل يأتي الرد من لبنان؟

أنطوني جعجع

يخطئ من يظن أن ايران تملك في ترسانتها الاستراتيجية الخارجية من هو أكثر كفاءة وتدريباً والتزاماً وتوسعاً وانتشاراً من “حزب الله”.

ويخطئ أيضاً من يظن أن ايران قادرة على توجيه أي رسالة نارية أو تسجيل أي نقطة في الحروب المباشرة وغير المباشرة من دون “حزب الله”.

انه باعتراف كل الخبراء الغربيين والاقليميين أفضل استثمار ايراني في لعبة الكبار، وفي مشروع “الهلال الفارسي” الذي بدأ من طهران الى المتوسط قبل أن يتمدد صوب القرن الأفريقي وشمال أفريقيا وصولاً الى أوروبا وأميركا اللاتينية.

وما يعزز هذه النظرية، أن الذين وقعوا في قبضة الاستخبارات الخارجية كانوا في معظمهم من الشيعة اللبنانيين سواء في الكويت أو الامارات أو مصر أو المغرب أو ألمانيا أو بلغاريا أو فرنسا أو الأرجنتين أو الولايات المتحدة.

وما يعززها أيضاً أن “حزب الله” فقد مكاتبه وملاذاته التي كان يستخدمها تحت مسميات دينية أو خيرية أو اجتماعية، في أكثر من سبعين دولة، وأن جناحه العسكري أدرج على لوائح المنظمات “الارهابية” لدى عشرات الدول العربية والغربية.

وفي قراءة سريعة في سجلات الثورة الاسلامية، يتبين أن ايران لم تربح أي حرب بسواعدها المباشرة ولم تخض أي حرب مباشرة منذ كرّست الهدنة مع العراق المجاور، وأن من حوّل الحوثيين في اليمن من قبائل الى ميليشيا تجيد القتال وصنع الصواريخ واطلاقها كان “حزب الله”، وأن من درّب “الحشد الشعبي” في العراق كان “حزب الله”، وأن من حمى النظام السوري قبل دخول الجيش الروسي على الخط كان هو أيضاً، وأن من تسلل الى غزة لتعزيز قوة “حماس” و”الجهاد الاسلامي” تدريباً وتسليحاً كانوا أيضاً عناصر “المقاومة الاسلامية”، اضافة الى تسجيل أول ثغرة في قدرات الجيش الاسرائيلي خلال “حرب تموز”، في وقت كانت طهران تراقب من بعيد في ما يشبه حرب المناظير من جهة، وحرب التهديدات الكلامية من جهة أخرى.

وليس غريباً أن تفتح ايران خزائنها المالية والتسلحية أمام رجال حسن نصر الله من دون حساب أو تقنين أو تردد حتى لو جاء الأمر على حساب اقتصادها ولقمة سكانها، فهي تعرف أن كل قرش تنفقه في هذا الاستثمار سيؤتي ثماره بطريقة أو بأخرى، خلافاً لما أنفقته في أماكن أخرى وتحديداً في العراق وسوريا.

ويقول ديبلوماسي غربي تعليقاً على هذا الواقع: انها من المرات القليلة التي يغدو فيها الفرع أقوى من الأصل، أو أن يصبح الأصل الجهة التي تعتمد على الفرع عندما تضعف أو تُحاصر أو تُعزل أو تضطرب أو تُحرج، مشيراً الى أن “حزب الله” هو الجهة التي تنعش ثلاثة اقتصادات دفعة واحدة وبالعملة الصعبة وما يلزم من مقومات الصمود، هي أولاً اقتصاد بيئته الحاضنة في لبنان، وثانياً اقتصاد النظام السوري، وثالثاً نواقص الجمهورية الاسلامية في ايران.

وهنا يسأل المراقبون من أين لـ “حزب الله” كل هذا؟ والجواب جاهز وغب الطلب: “ابحثوا عن لبنان”.

ففي هذا البلد، ينفلش “حزب الله” من أقصاه الى أقصاه من دون منافس أو مشاكس أو محاسب أو مضارب، سواء من السلطة السياسية أو السلطة العسكرية أو السلطة الشعبية، وفي هذا البلد أيضاً يملك وحده القرار الأول والأخير على معظم المستويات، سواء فوق الطاولة أو تحتها، ويملك القدرة على تعويم من يشاء وتحجيم من يشاء والتخلص ممن يشاء من دون أي هواجس أو حسابات أو تداعيات.

وقد يسأل سائل: كيف يستطيع رجال حسن نصر الله أن يفعلوا كل ذلك في بلد يملك دستوراً وجيشاً وتاريخاً ومجتمعاً متنوعاً من دون أن يقوم بثورة أو انقلاب أو حسم عسكري واسع وشامل؟ والجواب أيضاً متوافر وغب الطلب، إذ أثبتت الأحداث بعد “غزوة السابع من أيار”، أن “حزب الله” لم يعد في حاجة الى سلاحه بالمعنى المحسوس، فهو علق حربه مع اسرائيل من خلال القرار ١٧٠١، وسيطر على الشارع أولاً من خلال ترويع بيروت السنية أمنياً بعد ترويعه من خلال قتل قائدها الأكثر شعبية رفيق الحريري، وثانياً من خلال ضرب ثورة “السابع عشر من تشرين”، محوّلاً عهد ميشال عون الى رهينة في يده أو على الأقل الى قيادة مدينة ببقائها في السلطة لسواعد الثنائي الشيعي وسلاحه.

وهنا أيضاً يسأل سائل آخر: لماذا لا يفعل ذلك في دول أخرى؟ والجواب أن دون ذلك عقبات عدة، ومنها أن سوريا لا تزال تملك جيشاً يأتمر بحاكم قادر على المناورة والمشاركة، وأن العراق تمكن من تكوين بيئة سنية – شيعية – كردية تمنع سقوط البلاد في قبضة ايران، وأن اليمن منقسم بين الحوثيين وجيشين يمني وعربي يمنعان قيام ايران جديدة على حدود الخليج البرية، وفي فلسطين تحول اسرائيل وحركة “فتح”، كل على طريقته، دون تحوّل المناطق الفلسطينية الى ملحقات ايرانية صافية.

وهنا لا بد من السؤال البديهي: لماذا لا ينقض “حزب الله” على كل شيء في لبنان ويتولى السلطة التي يتولاها الأئمة في طهران؟ والجواب أيضاً بديهي وغب الطلب.

لم يعد “حزب الله” بعد “اتفاق مار مخايل” مع “التيار الوطني الحر” وبعد “اتفاق الدوحة” و”غزوة” بيروت، وتحييد رجال “الرابع عشر من آذار”، يحتاج الى أي تدخل مباشر، فهو قادر على ضرب أي تحرك معارض في الشارع من خلال الجيش والقوى الأمنية الأخرى، وقادر على فتح أي ملف واقفال أي ملف آخر من خلال الجهاز القضائي الذي يتقاسم مفاتيحه الأساسية مع حركة “أمل” و”التيار الوطني الحر”، وهو قادر على تحديد علاقاته الخارجية عبر نزلاء قصر بسترس الذين يتعاطفون معه سواء اقتناعاً أو خوفاً أو مواربة، وهو قادر على إقامة نظام مصرفي خاص من دون رقابة من المصرف المركزي أو أي اعتراض، وعلى اقامة اقتصاد خاص من دون التزام بأي تدابير أو اجراءات، وعلى اقامة نظام تربوي خاص مرتبط الى حد كبير بالثقافة الدينية الايرانية من دون أي تحفظات من الأجهزة التربوية الرسمية، وعلى استباحة الحدود البرية ذهاباً واياباً من دون أي حساب لأي حراس أو سياج أو سيادة .

وأكثر من ذلك، هو قادر على القيام بأي أعمال أمنية أو انفلاشية من دون أن يتعرض له أحد سواء بغرض السؤال أو التحقيق أو الشبهة أو الاتهام، وعلى تحديد سياسة لبنان الخارجية، ومواصفات أي رئيس للجمهورية سواء كان قادراً على ايصاله أو لا، وعلى وضع ظهر “المقاومة ” في مقدم الأولويات في بلد نهشت الأزمات لحمه ولم تبقِ حتى على عظامه.

وها هو أيضاً، يحاول دفن التحقيق في تفجير مرفأ بيروت، من خلال أهل البيت القضائي نفسه بعدما عجز عن ذلك من خلال التهويل المباشر وغير المباشر، يساعده في ذلك طامحون مسيحيون الى الرئاسة الأولى، وأجهزة أمنية لا تجرؤ على التحرك من دون تنسيق معه، وخلايا قضائية لا تضرب مطرقتها الا بإذن منه.

وها هو يقول لمن لا يريد أن يصدق ويواصل حال المكابرة: اذا لم يكن هذا احتلالاً علنياً فهو هيمنة مطلقة، وإذا لم يكن هذا حرباً خفية في مكان وعلنية في آخر ضد العالم كله، فهو جمر تحت الرماد أو قنبلة موقوتة يمكن أن تنفجر في أي لحظة.

انها شواهد ومعطيات كثيرة لواقع واحد هو أن لبنان الذي نعرفه لم يعد قائماً الا في الشكل، خلافاً للمضمون الذي قضمه “حزب الله” قطعة قطعة سواء بالترغيب أو الترهيب، يساعده في ذلك غياب خصم جدي على الأرض وقائد سيادي في القمة، وجيش غير مسيّس أو مرتهن أو طامح أو خائف، وشعب يتقن الدعوة الى الثورة ويتحاشى ركوب موجتها.

وأكثر من ذلك، لا بد من سؤال أخير: هل انتهى الأمر؟

الجواب ليس في لبنان الذي يتحاشى حسن نصر الله احتلاله عسكرياً كي لا يلقى ما لاقاه الفلسطينيون من قبل والسوريون من بعد، انه في مكان آخر، قد يكون في الغارة على مصنع الصواريخ البالستية في أصفهان، وفي الحملة التي بدأها الغرب على المفاصل العسكرية والثورية الايرانية، وهما عاملان يطرحان السؤال البديهي الآتي: هل سترد ايران التي تعاني اليوم أسوأ وضع داخلي وأخطر وضع خارجي منذ العام ١٩٧٩؟ وأين يمكن أن ترد اذا قررت الرد؟ وكيف يمكن أن يكون الرد؟ وأكثر من ذلك من يمكن أن يتولى الرد؟

انطلاقاً من كل ما تقدم، لا يبدو أن ايران في وارد الدخول في صدام مباشر مع المحور الاسرائيلي – الأميركي، لكنها في وارد الدخول في صدام بالواسطة يتولاه الأكثر التزاماً والأكثر قدرة على الرد، والأكثر قرباً من هدف الرد أي “حزب الله” الذي بدأ بنشر قواته قبالة اسرائيل على طول الحدود اللبنانية – السورية في انتظار ضوء أخضر محتمل من طهران التي ارتكبت أسوأ أخطائها الاستراتيجية من خلال الانتشار على حدود أورويا حليفاً للجيش الروسي في حربه على أوكرانيا، والتي اقتربت من انتاج قنبلة نووية، وتمددت نحو أفريقيا وأميركا اللاتينية من خلال “ميني حزب الله”، على غرار حركة “الشباب المجاهدين” في الصومال أو “جبهة البوليساريو” في الصحراء المغربية، وبعض الحركات الثورية الأميركية.

وانطلاقاً أيضاً من كل ذلك، لا ينظر المراقبون الى “غارة أصفهان” على أنها شأن اسرائيلي – ايراني وحسب، والى التورط الايراني في أوكرانيا على أنه شأن أميركي – ايراني، بل يتعاملون معهما على أنهما شأن لبناني مباشر ما دام “حزب الله” معني بأمن الاقليم ومشروعه العقائدي الاستراتيجي، وما دامت بنادقه تفتح نيرانها مرة بأمر من ايران ودائماً من أجل ايران.

ويختم المراقبون أن الغليان في المنطقة على أوجه، لكن ما يفرمل الانفجار أن الجهة التي يمكن أن تطلق الطلقة الأولى لم تحسم أمرها بعد.

شارك المقال