من الترويع إلى التوقيع… عون هو عون

أنطوني جعجع

لا شيء تغير، ولا شيء يمكن أن يتغير، فهذا هو الرجل بلا زيادة أو نقصان، لا تكاد تحاسبه على أمر حتى تقع على أمر آخر أكثر سوءاً، ولا يكاد يطلق وعداً حتى ينتقل إلى وعد آخر.

هو ميشال عون، صاحب تاريخ يتغاوى به ولو كان يخلو من أي انجاز لافت يفتح له أبواب التاريخ.

هل نجني على الرجل؟ دعونا نتذكر…

في العام ١٩٨٤ تسلم قيادة الجيش بتوصية من دمشق، فترك جنوده في سوق الغرب واستقر آمناً في أحد فنادق المنطقة الشرقية باعتراف سلفه قائد الجيش ابراهيم طنوس. وفي العام ١٩٨٨ تسلم المدفع، فصب قذائفه على غرب بيروت مرة وشرقها مرات، ووصلت به “الحماسة” إلى حد تهديد الأسد بكسر رأسه، ثم وصلت به “الكياسة” إلى حد اعتبار نفسه جندياً في جيشه. وفي العام ١٩٨٩ انقض على ميليشيا القوات اللبنانية تحت شعار توحيد البندقية مرة، وضرب الميليشيات مرة أخرى وإسقاط اتفاق الطائف في كل المرات، فدمر أقوى قوة عسكرية مسيحية في تاريخ المسيحيين في لبنان. وفي الثالث عشر من تشرين العام ١٩٩٠ أعلن أنه سيكون آخر المنسحبين من المعركة فكان أول المنسحبين على الإطلاق …

وفي العام ٢٠٠٥ تسلم الغالبية المسيحية فجيَّرها إلى “حزب الله”، وفي العام ٢٠٠٩ تسلم أكبر كتلة نيابية مسيحية، فوظفها في خدمة مشروع إقليمي ممانع يهدف إلى تعطيل مجلس النواب من خلال التحكم بلعبة النصاب، وفرملة العمل الحكومي من خلال لعبة الثلث المعطل، وضرب التيار السيادي، والحؤول دون وصول أي شخصية سيادية إلى قصر بعبدا.

ودار الزمان ثلاثين عاماً، فتسلم الرئاسة الأولى ومعها هذه المرة قلم في جيبه وبندقية في قبضة “حزب الله”، فحول القلم إلى سلطان يوَّقع ما يروق له من مراسيم وملفات ويمحو ما يراه منافياً لمصالحه أو رغباته، وحول البندقية إلى “بعبع” يتلطى خلفه كلما نزل ثوار على الأرض أو لاحت ثورة في الأفق.

وأكثر من ذلك، بدا القصر الجمهوري وكأنه منزل عائلي لا مكان فيه لغير البنات والأحفاد والمقربين والأقربين، وبدت الرحلات السياسية إلى الخارج رحلات استجمامية اكثر منها مهمات وطنية، وبدت مفاتيح السلطة حكراً على الموالين والمبايعبن من دون شروط أو تساؤل.

وفي الواقع، لم يشهد لبنان منذ ما قبل الاستقلال هذا الشح المخيف في منسوب الصداقات، وهذا الفيض الهائل في منسوب العداوات أو الحصارات أو الإهانات، ولم يشهد قصر بعبدا ساكناً لا يرفع سماعته للسلام على نظير عربي أو أجنبي أو للتشاور مع منظمة دولية أو للمشاركة في مؤتمر أو قمة أو مجلس، أو في حل أزمة أو فتح سوق أو فك عزلة أو تحديد مسار.

وجل ما نشهده منذ أربع سنوات ونصف، ليس أكثر من رئيس عائلة أو حاشية أو تيار، لا امتدادات له ولا تأثيرات لا خارج القصر ولا خارج الحدود، رئيس يكاد يكون عاطلاً عن العمل لولا بعض استقبالات تقتصر على أمور روتينية عادية تشبه إلى حد ما انشغالات النواب في عطلات الأسبوع وحراك البلديات والمخاتير.

وليس المقصود هنا الإساءة إلى الرجل بمقدار ما نقصد الإضاءة على حالة لبنانية مثيرة للجدل، وتحتاج إلى العشرات من علماء النفس لتفسير هذه “الهالة” التي نجح في رسمها حول شخصه، وهذا الاندفاع الشعبي المتمسك بها حتى الهذيان، متجاهلاً جولات من الخيبات والصدمات والتحولات والتبدلات والانهيارات…

ويقول أحد علماء النفس ممن عايشوا الجنرال ميشال عون، أن العلة في الرجل ليست أخطر من تلك التي في أتباعه، مشيراً إلى أنه استفاد من ثقة عمياء به وتمادى في مغامراته وتقلباته وحساباته وتحالفانه وعداواته من دون أي تخوف من مساءلات أو أي حساب لأي انقلابات.

ويرى عالم نفس آخر، أن شعبية الجنرال تتوزع على ثلاث فئات:

– فئة تعتبر الجيش مدرسة لا تخطئ ولا تظلم ولا تفسد ولا تخون.

– فئة تنظر إلى الميليشيات نظرة وضيعة وتعتبرها جزءاً من منظومة فاسدة ومجرمة ساهمت في تدمير لبنان ومقوماته وخيراته وأمنه وسمعته.

– وفئة لا تعرف شيئاً عن حرب لبنان لا على مستوى الأسباب والتراكمات والمعطيات والتدخلات والانتهاكات، وتصر على التعامل مع التاريخ منذ اللحظة التي خاطبها فيها الجنرال من شرفة قصر بعبدا، واصفاً إياها بالشعب العظيم.

ويضيف أن الجنرال الذي أطلق طموحاته السياسية معتمداً على ألوية عسكرية مسيحية في معظمها، وجد نفسه فجأة “محبوب الجماهير” يصدقونه ولو تحايل، ويسامحونه ولو أخطأ، وينصرونه ولو تقاعس، و”يطنشون” لو أخل بوعد أو استسلم أو هُزم أو انسحب من معركة أو تخلى عن جنوده أو تجاهل من استشهد في سبيله أو سجن من أجله، مشيراً إلى أن الرئيس عون كان ينظر إلى نظرية “الرأي العام” نظرة استخفاف، ويجيب كلما سئل عن مواقف ناسه حيال أمر ما أو نقلة ما أو خيار ما أو قرار ما: “لا عليكم منهم… الرأي العام ليس أكثر من مجموعة حمقى… آخذها إلى حيث أريد وأعيدها من حيث أريد”. ونقل عن كواليس عون ما كان يردده دائماً أمام الحلقة الضيقة من المقربين والمستشارين، من قدرته على إقناع الناس انه وريث كميل شمعون في الكاريزما والحكمة ووريث بشير الجميل في الحسم والشعبية، ويكاد يكون رسول مار مارون الآتي لإنقاذ رعيته ونشر رسالته.

ويقول أحد علماء النفس، إن ثمة شخصيات قيادية يصل بها الوهم إلى حد الاعتقاد أنهم أصحاب مهام سماوية مختارة لا تقبل أي اعتراض من أحد ولا أي تشكيك، وتتصرف في شكل يخلو من المراجعة والمحاسبة الذاتية ويدفعها على الرغم من الكثير من السقطات والهزائم إلى الخروج إلى الناس مخاطباً إياهم بالقول: لا تنسوا… أنا ميشال عون.

ولم يكن الجنرال مخطئاً في هذا المجال، إذ إن قسماً كبيراً من الرأي العام الذي بايعه منذ العام ١٩٨٨، لم يحاسب ولم يحاكم ولم يجر أي جردة حساب يعتد بها، وأبقى على رهانه وثقته وولائه، انطلاقاً من قناعة مطلقة في مكان ومن نكايات ثابتة في مكان آخر.

وليس المقصود هنا الإساءة إلى الجزء الطيب من مشاعرهم السياسية أو الوطنية أو الشخصية، بل إلى رسم علامة استفهام حيال الأسباب والدوافع التي تدفع شريحة واسعة من المسيحيين إلى تغليب العاطفة على المنطق والتسامح على المحاسبة، والإصرار على الدفاع عن خيار يرون فيه القرار الأصح والالتزام الأصدق حتى لو جاء الحصاد معاكساً لما كانوا يأملون أو ينشدون.

وأكثر من ذلك، نسأل: إذا كانت الرؤية السياسية وعلم المنطق أمرين يتجاوزان عقول الناس الطيبين، فماذا عن عقول السياسيين وصانعي القرار، وفي مقدمهم رؤساء الأحزاب المسيحية، الذين فتحوا له طريق المدفع جنرالاً وطريق القلم رئيساً وطريق السلطة في كل المرات.

ها هو الجنرال عون في القصر الذي حلم في أن يسكنه رئيساً شرعياً، وها هو الدكتور سمير جعجع في معراب يكابر في العلن ويعض أصابعه ندماً ولو في الكواليس، والرئيس أمين الجميل في بكفيا يدفع ثمن فعلته من رصيد عائلته وحزبه ولو من دون ضجيج، وها هو الرئيس سعد الحريري في بيت الوسط يتململ حيال التسليم بخيار مسيحي لم يكن في الحسبان، وها هو لبنان الذي تردد طويلا أنه لبنان القوي المحكوم من رئيس قوي، يختفي في العتمة والتخلف وحيداً بلا حلفاء ولا أصدقاء، وموبوءاً بلا عزاء أو دواء…

ترى، من أذكى ممن؟ الناس أم الساسة؟

الجواب واضح، ويتمثل في وجود فريقين ذكيين في نوع خاص، هما الجنرال عون نفسه و”حزب الله”، الأول لأنه يشعر بأنه مدين في رئاسته للسيد حسن نصرالله دون سواه، وأنه عرف أن الرأي العام “أحمق” وأن خصومه “هواة”، والثاني لأنه درس الجنرال جيداً وأيقن أن حبه للسلطة أغلى من الناس والساسة والأرض والوطن، وأن الرهان على طاعته أعتى من الرهان على مئة وخمسين ألف صاروخ.

أما الناس، فهم من دون شك أكثر نبلاً في ولاءاتهم وتعاطفهم، لكنهم في الوقت نفسه أكثر إمعانا في ممارسات تقوم على مبدأ المعاندة التي تصل إلى حد “قطع الأنف نكاية بالوجه”.

ويقول منشق عن التيار الوطني الحر، إن الجنرال أخذ من الناس كل شيء ولم يعطهم أي شيء في المقابل، لافتاً إلى أنه لا يشعر بالامتنان إلا لـ”حزب الله” إما من باب الوفاء، وإما من باب الخوف… ويضيف أن الجنرال كان يردد دائماً بعيد عودته إلى بيروت من فرنسا: أريد أن أكون رئيساً لا شهيداً.

وكان له ما أراد.

هل نبالغ في هذا التوصيف؟ ربما، لكن يكفي أن نقرأ في سجلات عون كي نجد أنفسنا أمام رجل يجلس على شرفته، معتقداً أنه فوق الشبهات وفوق القوانين وفوق التاريخ، وأن الكرة الأرضية تدور حوله أو حول نسله، وأن وجوده على الأرض ليس سوى نعمةٍ من نعِم السماء.

شارك المقال
ترك تعليق

اترك تعليقاً