رفيق الحريري… “امبراطورية” برائحة زهر الليمون

زياد سامي عيتاني

سيرة حياة رفيق الحريري مليئة بالعِبر الشخصية والعامة، حاله حال أي رجل ناجح.

لم يكن سياسياً أصلاً على الرغم من إنخراطه فتياً في حركة “القوميين العرب”، ولم يكن سليلاً لعائلة ثرية، بل بدأ مسيرة حياته من بيئة شديدة التواضع، قبل أن يتحول إلى واحد من أكثر رجال الأعمال نجاحاً وشهرة في العالم العربي، حتى غدا ظاهرة سياسية فريدة في وطنه لبنان، الذي أعاد بناءه سياسياً وإقتصادياً وإعمارياً، مرسخاً السلم الأهلي، ومنتقلاً به من مرحلة الحرب المدمرة إلى مرحلة السلم الواعد.

وبذلك، تمكن بسرعة متناهية من أن يتحول إلى ظل القوة الأكثر تأثيراً في المشهد السياسي اللبناني حتى بعد إغتياله المزلزل. فلم يرتبط إسم زعيم سياسي لبناني ببلده، مثلما إرتبط إسم رفيق الحريري لأسباب عدة أبرزها: دوره في إعادة بناء لبنان بعد حرب أهلية واقليمية طويلة، وإمتلاكه رؤية إقتصادية طموحة وعصرية لمستقبل البلاد، بالاضافة الى طريقة تعاطيه مع ثروته الشخصية.

البداية في قطف الليمون:

نشأ رفيق الحريري في أسرة يسودها الحب، وكان والده يعمل بجد في البساتين، ووالدته تؤمن بقيمة التعليمِ وتحثه على الاجتهاد وتحقيق درجات جيدة، مما شكل حافزاً لديه، لشق طريقه نحو مستقبل يتيح له رد جميل تضحيات والده، وجعل أحلامه وطموحاته لا حدود لها، إذ لم يترك أي فرصة تضيع منه، بحيث كان عملياً ودينامياً إلى أقصى الحدود، يسابق الوقت والزمان، حتى يبلغ مبتغاه، متسلحاً بالإيمان والعزيمة والكد والمصداقية والإرادة الفولاذية، والجرأة على إقتحام الأعمال والبلاطات السياسية والمالية بصورة خيالية.

بدأ حياته العملية في طفولته في قطف الليمون، ومثل أي لبناني عادي، درس في المدرسة، ولكنه كان يقوم بعمل إضافي إلى جانب دراسته لمساعدة نفسه في تغطية نفقاته الدراسية، بحيث عمل محاسباً،‏ ومدققا لغوياً في إحدى الصحف المحلية. وحين أنهى تعليمه الثانوي، إلتحق بجامعة بيروت العربية ليدرس في مجال المحاسبة، وأثناء دراسته، تدرّب في أحد المكاتب الصغيرة في لبنان.

محاسب في السعودية:

قبل نهاية عقد الستينيات، وبعد حصوله على درجة في المحاسبة من جامعة بيروت العربية، تزوج الحريري من شابة عراقية كانت زميلته في الدراسة، وسافر للعمل في المملكة العربية السعودية حيث بدأ حياته العملية كمدرس وفي وقت لاحق عمل كمحاسب مهني.

ومن أوائل من عمل لديهم كموظف في مجال المقاولات، شخص سعودي يملك شركة كبرى، هي شركة “ريديك” التي اشتهر فيها الحريري بالعمل الجاد والالتزام.

أول إلتزام أكسبه ثقة العائلة الحاكمة:

بحلول العام 1970، شرع الحريري في الدخول في مجال الأعمال الحرة لحسابه الخاص، وكان ذلك في الفترة الأولى من مرحلة إرتفاع أسعار النفط، التي أدت إلى حدوث إزدهار واسع في المملكة.

وفي أواخر العام 1976 حصل شريك الحريري، وهو مقاول فلسطيني على عقد لبناء فندق ضخم فيه قاعات للمؤتمرات في الطائف، يجب إنجازه خلال عشرة أشهر. وكان السعوديون يعدون لمؤتمر مهم يعقد في تشرين الثاني عام 1978 في الطائف، العاصمة الصيفية الجبلية الجميلة التي لم يكن فيها فندق ضخم يحتوي قاعات للمؤتمرات.

وتعهد الحريري بإنجاز شروط العقد، وزار باريس لتأمين قرض لرأسمال تشغيل المشروع، وإشراك شركة فرنسية في ذلك العقد، ولم تكن التكلفة مهمة طالما أن العقد ينجز خلال عشرة أشهر. وأثناء وجوده تعرف الى جوزيف عبده الخوري وهو مصرفي لبناني نشط يملك “بنك البحر المتوسط” في لبنان وبدأ عملياته في باريس. وأعجب المصرفي به وقبل دعم جهوده من خلال توفير الضمانات المصرفية اللازمة وتوفير رأسمال التشغيل وإبرام اتفاق مع شركة “أوجيه” وهي شركة هندسية فرنسية مشهورة، وأنجز العقد في موعده. وكان ذلك أول إختبار كبير بالنسبة الى الحريري، وقد نجح فيه نجاحاً باهراً، وحصل على دعم ولي العهد آنئذ الأمير فهد بن عبد العزيز، الذي تولى الحكم لاحقاً في العام 1980.

إمتلاك شركة “أوجيه”:

وبفضل الثقة التي منحت له من الأمير فهد، حقق الحريري أرباحاً ضخمة، وتمكن من إمتلاك شركة “أوجيه” التي كانت على حافة الافلاس. ومنذ ذلك الوقت بدأت الأسرة المالكة السعودية تعتمد عليه في إنجاز أعمال التشييد والبناء لمعظم الشخصيات البارزة من أفرادها.

وقدر حجم الأعمال التي أنجزت أو العقود التي تولاها الحريري في الفترة ما بين الأعوام 1977 و1982 بما يزيد عن 10 ملايين دولار، ولم تقتصر أعماله على عقود التشييد وحسب، بل شملت أيضاً التأثيث وتنسيق الحدائق والصيانة.

كما تضمنت الأعمال إنجاز مشروع قصر المؤتمرات بمواصفات رفيعة للغاية في دمشق، وقد سدد السعوديون نفقاته، بعدما حثهم الحريري على ذلك وهو الذي أصبح منذ أوائل الثمانينيات يشاركهم جهودهم في التوسط بين الأطراف اللبنانية المتنازعة، وكان يرغب في عقد صلة وثيقة مع النظام السوري، لتسهيل حركته السياسية في لبنان، بهدف السعي الى وقف الأعمال الحربية والصراع الدائر.

توسع نشاطه خارج المملكة:

ولعبت “أوجيه” دوراً بارزاً في عمليات الاعمار داخل المملكة، كما إمتد نشاطها إلى الخارج، وتوسعت أعمالها لتشمل قطاعات أخرى كالمصارف وشركات التأمين والاتصالات، وصنّفت مجلة “فوربس” الأميركية حينها رفيق الحريري واحداً من أغنى 100 رجل أعمال في العالم.

– في باريس:

إستثمر الحريري بقوة في العقار في باريس، وحوّل مبنى عتيقاً في المنطقة السادسة الراقية الى مجمع حديث للمكاتب، وإضافة إلى ذلك في العام 1987 إمتلك نسبة 9,4 بالمائة من أسهم “بنك باريبا” في باريس، ومنحت مجموعته مقعداً في مجلس الادارة للفرع الدولي. كما إمتلك في وقت لاحق نسبة مهمة في مصرف “كريدية اغريكول”، ومن بين أبرز إستثماراته في فرنسا شراء مسكن غوستاف ايفل (الشخص الذي بنى برج ايفل) وهو فيلا مبنية على مساحة 3 آلاف متر مربع مقامة في وسط منطقة تقع قبالة البرج الشهير عبر نهر السين.

– في الولايات المتحدة:

كما وصل الحريري إلى سوق الولايات المتحدة، حيث اشترى برج هاينز في هيوستون، الذي كان أحد أهم المباني الكبرى في عاصمة صناعة النفط الأميركي، وأعقب هذه الخطوة شراء أراضٍ في عدد من الولايات.

– توسع عالمي:

أضاف الحريري إلى هذه الاستثمارات أراضي شاسعة في الصين في روديسيا ومزرعة كبرى في البرازيل. وبحلول النصف الثاني من الثمانينيات تحول الى مستثمر جريء في الدول الصناعية، فبعد امتلاكه نسبة 9ِ4 في المائة من أسهم “بنك باريبا” أصبح يستجيب للمشروعات الاستثمارية التي يقترحها البنك عليه.

على الصعيد المصرفي:

أسهم الحريري في مصارف في فرنسا (باريبا ومديترانيه) والأردن (البنك العربي) والمملكة العربية السعودية (30 في المائة من بنك الاستثمار السعودي) ولبنان كان له فيه ما بين 700 الى 800 مليون دولار.

وللحصول على تكامل أكبر في مجال الخدمات المالية أسس الحريري في العام 1995 شركة “ميد غولف”، وهي شركة تأمينات تعمل في جميع أنحاء الشرق الأوسط وأفريقيا الشمالية.

إنه رفيق الحريري… الذي لم يعرف المستحيل، المؤمن بالعمل والمثابرة، بصدق وأمانة وتفان، فحقق “امبراطورية” جعلته في مقدمة صفوف الفعاليات الاقتصادية الدولية.

كلمات البحث
شارك المقال