يوم مات الوطن!

صلاح تقي الدين

تصادف يوم غد الثلاثاء الذكرى الثامنة عشرة لاغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري الذي لم ولن ينساه اللبنانيون كرمز من رموز الانماء والاعمار وزارع الأمل في نفوسهم، والحلم الجميل الذي مرّ في خاطرهم وشكّل لهم بارقة أمل في مستقبل من الاستقرار والنهوض كانوا يتطلعون إليه، لكن في الواقع فإن هذه الذكرى تمثل بالنسبة الى كثيرين وكاتب هذه السطور منهم، ذكرى موت الوطن وليس ما نعيشه اليوم من مآس سوى تجليات واضحة لهذا الموت.

بدأت المؤامرة الكبيرة يوم فرض على لبنان أن يكون اميل لحود رئيساً، والنتيجة الأولى لهذا الفرض كانت محاولة إقصاء رفيق الحريري من خلال الاتيان بالرئيس سليم الحص لتشكيل الحكومة الأولى في عهد لحود، فجاءت الحكومة خالية من أي تمثيل للحريري وشريكه النائب السابق وليد جنبلاط، في محاولة واضحة للاقتصاص منهما لمعارضتهما الارادة السورية في انتخاب لحود وإن كانت هذه المعارضة مختلفة بين الرجلين، فالأول انتخبه مجبراً والثاني لم يعطِ أصوات نواب كتلته لصالحه.

ومع دخول الرجلين في مرحلة تشكيل المعارضة في وجه العهد والتخطيط لخوض الانتخابات النيابية المقررة في العام 2000، بدأت مظاهر الحشد السوري – اللحودي في وجه المعارضة تتوضح والهدف الوحيد كان تقليص نفوذ الحريري وتحجيم التمثيل الجنبلاطي، غير أن الارادة السورية سقطت أمام الارادة الشعبية، فاكتسح رفيق الحريري بيروت وفاز بجميع مقاعدها النيابية وكذلك فعل جنبلاط، وكرّس الرجلان زعامتهما السنية والدرزية وفتحا الباب أمام تشكيل جبهة معارضة وطنية واسعة من خلال الانضمام إلى اللقاء المسيحي المنعقد تحت مسمى “لقاء قرنة شهوان”، علناً وضمنياً.

وبعد النتائج الانتخابية الساحقة، لم يكن أمام لحود والنظام السوري أي أمل سوى الرضوخ للارادة السياسية والشعبية وتكليف الحريري بتشكيل الحكومة الثانية في عهده في تشرين الأول من العام 2000، والتي لم يغب عن بيانها الوزاري الاشارة إلى الانجاز الذي تحقق بانسحاب قوات الاحتلال الاسرائيلي من جنوب لبنان نتيجة ضربات المقاومة، في إشارة واضحة إلى حقيقة الانتماء الوطني والقومي للحريري، لكن ما في نفوس الحاقدين والذين كانوا ينصبون الفخاخ للايقاع به لدى القيادة السورية كان أكبر من رسالة الحريري وإشاراته المسالمة والبناءة.

ونتيجة التضييق المستمر من الجهاز الأمني اللبناني السوري المشترك آنذاك على الحريري ومشاريعه الحكومية، قدّم الرئيس الشهيد استقالة حكومته في نيسان من العام 2003 ليعاد تكليفه بتشكيل الحكومة الثالثة في عهد لحود والتي استمرت في الحكم لغاية تشرين الأول من العام 2004 وعانى خلالها الأمرين نتيجة فرض القيادة السورية على لبنان التجديد للحود. وبعد أن تعرّض الحريري للاهانة الشخصية من رئيس فرع الأمن والاستطلاع السوري اللواء رستم غزالة للقبول “بإرادة” بشار الأسد، وجد نفسه غير قادر على الاستمرار في السلطة وقدّم استقالة حكومته، مؤكّداً أنه ليس مرشحاً لتشكيل حكومة جديدة في عهد لحود الممدد.

وتميّزت جلسة التمديد للحود بجرأة نواب المعارضة في مواجهة الهيمنة السورية فصوّت 29 نائباً ضد التمديد وهم نواب كتلة “اللقاء الديموقراطي”، نواب كتلة “قرنة شهوان” والنواب مصباح الأحدب، مخايل الضاهر، فارس بويز، وغطاس خوري وأحمد فتفت من كتلة الرئيس الحريري، وأطلق يومها جنبلاط على هؤلاء النواب لقب “لائحة الشرف”.

وكانت الرسالة السورية واضحة جداً، إذ بعد استدعاء الحريري إلى دمشق للقاء بشار الأسد، تسرّب الحوار الشهير الذي دار بين الرجلين وحمل تهديداً واضحاً من الأسد للحريري وجنبلاط، ترجم عملياً بمحاولة اغتيال الوزير والنائب مروان حمادة، في رسالة أولى واضحة للرجلين.

غير أن محاولة اغتيال حمادة، زادت من عزيمة الحريري على الوقوف بقوة ضد الهيمنة السورية الواضحة في أداء لحوّد لكن الوقت لم يسعفه، فحلّ يوم 14 شباط المشؤوم وحمل نعي الوطن باستشهاد رفيق الحريري.

بداية المؤامرة للانقضاض على لبنان وسلخه عن محيطه العربي وإتباعه بمحور لا ناقة له فيه ولا جمل، كانت في اليوم الذي جيء فيه باميل لحود رئيساً، واستمرت المؤامرة مع حفلة الجنون والاغتيالات التي طاولات رجالاً كباراً من سياديي لبنان، والتي شهدت مرحلة من الهدوء النسبي بعد يوم 7 أيار “المشؤوم” واتفاق الدوحة وانتخاب الرئيس السابق ميشال سليمان، لكن الحملة كانت مستمرة من “تحت” وبطلها المعلن كان ولا يزال ميشال عون.

فهذا الرجل الذي لم يوفر الشهيد الحريري من نقد ونعت، كان آخر أدوات انهيار المؤسسات في لبنان، وإن ورث عنه صهره المدلل شيئاً فهو قدرته على الاستمرار في التعطيل وهدم ما لم يقع بعد من بنيان الدولة ومؤسساتها، وما عاد اتفاق المسيحيين على شخصية رئيس عتيد للجمهورية إلا صورة عن قدرة “السلطان” على التعطيل مدفوعاً بقوة ومسنوداً بحزم من شريكه ومسيّره “حزب الله”.

لو لم يكن الرئيس الشهيد رفيق الحريري قديساً لما كان يوم ولادته ليصادف الأول من تشرين الثاني اليوم الذي يحتفل فيه بعيد جميع القديسين، ولو أنه بقي على قيد الحياة لمات حزناً على ما يشهده لبنان من هدم لجميع المرافق التي نجح في إعادة بنائها وانهيار للدولة التي حلم بأن تكون للجميع من دون تفرقة.

رحمك الله يا شهيد الوطن، لم ولن ننساك مهما كره الكارهون وهذا ما يردده صديقك وليد جنبلاط.

كلمات البحث
شارك المقال