دفاتر سورية – “جبل العرب”… الابن الذي جحده الوطن (3/1)

لؤي توفيق حسن

كان اسمه “جبل الدروز” حتى نهض أبناؤه يوم 5 تموز 1945 فأزالوا نصب الحدود لما أطلق عليه الفرنسيون “دولة جبل الدروز”، جاء ذلك بعد شهر ونيف من “معركة الجلاء” وطرد الفرنسيين من السويداء، ليستبدلوه باسمه الحالي المتداول “جبل العرب”، والذي سبق واستحسنه سلطان الأطرش بعد أن سمعه من المفكر اللبناني عجاج نويهض خلال كلمة ألقاها في حفل تكريمه عام 1937، على ما ذكره الباحث والمؤرخ حسن أمين البعيني. غير أن تضحيات الجبل لم تلقَ منذ فجر الاستقلال وحتى يومنا الا النكران كما سنبين كيف، ولعل الانتفاضة التي يشهدها الجبل حالياً هي امتداد لشخصيته التي صنعها التاريخ والمجبولة على الأنفة والاعتزاز. تاريخٌ حافل بالثورات بقدر ما كان حافلاً بالخيبات من سلطات تعاملت معه وما زالت كولد شقي لا بد من ترويضه، في حين أنه في الملمات كان الأكثر تضحيةً وعطاءً، مما يستوجب أن نطل على تاريخه الذي حفر عميقاً معالم شخصيته.

اللقاء العبرة

قصد أمير الجبل حسن الأطرش رئيس الحكومة السورية صبري العسلي في أعقاب الانقلاب الذي أطاح بأديب الشيشكلي عام 1954، والغاية المطالبة بصرف تعويضات للناس المنكوبة من عدوان الأخير على الجبل، كان والدي شاهد عيان على ما دار في هذا اللقاء. ذكّر الأطرش بالتضحيات الجسام التي دفعها الجبل على مذبح الاستقلال السوري، وكيف لم تتجاوب حكومات “العهد الوطني” مع الطلبات المتكررة بدفع تعويضات للعائلات والقرى المنكوبة من جيش المستعمر الفرنسي خلال المواجهات الدموية في الثورة السورية الكبرى (1925)، والتي قامت فعلياً على أكتاف الجبل وقادها سلطان الاطرش، دفع فيها الجبل قياساً الى عدد سكانه آنذاك نسبة تقارب ما خسره الاتحاد السوفياتي في الحرب العالمية الثانية. كما وذكّره بنكث حكومة الاستقلال بوعدها في دفع رواتب الجنود والضباط الدروز الذين انشقوا عن الجيش الفرنسي معتقلين ضباطهم الفرنسيين في ما سُمّي “انقلاب السويداء”، والذي جاء بترتيب من الأمير الأطرش وبالتنسيق مع الحكومة في دمشق، وفي سياق “معركة الجلاء” عن سوريا في أيار 1945؛ وهذا أمر تفردت فيه السويداء دون غيرها فكانت أول منطقة تحررت من الاحتلال.

قابل العسلي هذا بالاعتذار “لعدم توافر المال”، ما أضفى جواً متوتراً على اللقاء، وهذا بدوره انسحب على والدي وكان يومئذ في عنفوان شبابه فقال للعسلي: “دولة الرئيس، صار ينطبق على بني معروف قول عمر بن معد كرب أحد فرسان الفتح العربي المجلّين:

إذا قُتلنا ولا يبكي لنا أحدٌ.. قالت قريشٌ ألا تلك المقاديرُ

نُعطي السَوِيَّةَ من طعنٍ له نَفَذٌ.. ولا سَوِيَّةَ إذ تُعطى الدنانيرُ”.

والحقيقة أن هذين البيتين هما بيت القصيد في معاناة الجبل على مدى عدة عهود كما سنبين لاحقاً.

 الجبل بعد الاستقلال

بعد الاستقلال، كافأت حكومات “العهد الوطني” الجبل بالاهمال على صُعد التنمية لكن الأفدح كان بالتشكيك في انتمائه الوطني! متغافلةً عن تاريخه النضالي الحافل، اعتقاداً بأن قيادته المتمثلة آنذاك بأميره حسن الأطرش وسلطان باشا الأطرش يدينان بالولاء للأسرة الهاشمية وبأنهما يعملان على فصل الجبل عن سوريا وضمه الى الأردن، الأمر الذي سنكشف زيفه لاحقاً. وكان على رأس المشككين للأسف الرئيس السوري شكري القوتلي الذي أصابته لوثة التوجس تلك فاندفع وراءها مطلقاً عبارته الشهيرة: “الدروز أقلية خطرة يجب القضاء عليها”! وعليه أحجم عن دعوة سلطان الأطرش لحضور العرض العسكري في الذكرى الأولى لجلاء جيوش فرنسا عن سوريا في 17 نيسان 1946. وقد عبّر سلطان عن مرارته بالقول: “بعد جهاد مضنٍ زاد عن ربع قرن، أوكلتني الأمة خلال محنتها شرف قيادة ثورتها، كان من أعز أماني أن أكون مع لفيف اخواني المجاهدين أول الناعمين بمشاهدة حفلة عيد الجلاء، لو لم تتغلب على عقول بعض الحاكمين فكرة الأنانية والاستئثار”، هذا الموقف العدائي من سلطان انسحب فيما بعد على أديب الشيشكلي صاحب الانقلاب الثالث، فقد كان يردد مع تصاعد المعارضة ضد ممارساته الديكتاتورية: “أعدائي ثعبان رأسه في جبل الدروز وبطنه في حمص وذنبه في حلب، فاذا سحقنا الرأس مات الثعبان”؛ وعلى هذه الخلفية – وبعيداً عن التفاصيل – أرسل الشيشكلي حملةً عسكرية “لتأديب الجبل”، ولتجلب اليه سلطان الأطرش مكبلاً! ومن جهة ثانية، قامت قواته بالتنكيل وهدم البيوت بالقصف المدفعي، ما يحاكي في الشكل “العدوان الفرنسي على دمشق” في أيار 1945، مع فارق وهو أن القوات الفرنسية لم تنهب المحال التجارية، ولم تقتل النساء لسلب حليهن كما فعلت قوات الشيشكلي!

سلطان في الأردن

واجه الجبل ببسالة قوات الشيشكلي وهي متوجهة الى بلدة سلطان – (القريا) – لاعتقاله على الرغم من الفارق الكبير في ميزان القوى، وسقط الكثير من أبنائه صرعى خلال هذه المواجهات، مما اضُطر سلطان الى مغادرة الجبل نحو الأردن “حقناً للدماء”، وعند الحدود لم تسمح له الحكومة الأردنية بدخول أراضيها ما دعا كمال جنبلاط الى التوسط له فدخلها بعد يومين من الانتظار على ما ذكر حسن أمين البعيني في كتابه “سلطان باشا الأطرش”، وفيه يذكر أن قائد الجيش الأردني آنذاك كلوب باشا أرسل سيارات تحمل العلم البريطاني لنقل سلطان ورفاقه الخمسة والثلاثين الذين جاؤوا معه، لكنه أبى ركوبها “الا بعد وضع العلم الأردني عليها”. غير أن بيت القصيد كان عندما أرسل كلوب باشا من يعرض على سلطان وضع الجيش الأردني تحت تصرفه ليدخل به إلى الجبل على أسنة الحراب ويطرد قوات الشيشكلي منه؛ هذا العرض رفضه سلطان بشدة، ويروي شهود ممن كانوا معه في الأردن أن أحد رفاقه عاتبه لأن العرض فرصة للعودة الى الوطن وللثأر من الشيشكلي في الوقت عينه، فقال له: “حاربنا لنخرج فرنسا وليس لنستبدلها بانكلترا، بكرا بيرحل الشيشكلي وبترجع البلاد لأهلها”. لعل ما سبق يكشف زيف اعتقاد القوتلي ولفيفه ومن جاء بعدهم، بل ويقيناً فان سوء تقدير القوتلي وبطش الشيشكلي كانا يمكن أن يضعا الجبل خارج حضن الوطن الأم، لو لم يكن رأسه سلطان وحسن الأطرش ولفيف من العروبيين القوميين حولهما. والحقيقة أن سلطان بسجله الحافل في الكفاح وفي التعفف هو الأجدر بمنح شهادات في الشرف والوطنية وليس العكس؛ ولكنها العصبيات التي تعمي البصائر.

(غداً نستكمل الحديث عن الجبل في زمن البعث)

شارك المقال