دفاتر سورية – “جبل العرب”… الابن الذي جحده الوطن (3/2)

لؤي توفيق حسن

هل عند الدروز نزعة انفصالية؟ الجواب بالنفي قولاً واحداً، كما يشهد تاريخهم. انما السؤال مفتعل، وغير بريء، لأنه لا يأتي من مخاوف تتصل بحسابات الأمن القومي، وانما يأتي من أسباب أضيق تتصل بحسابات الأنظمة عندما تصطدم مظالمها بجمهور الدروز فتثير نزعة التمرد في شخصيتهم، والسؤال غير بريء أيضاً لأنه يتوخى وسائل غير نبيلة، وهي توظيف الماضي لاصطياد الحاضر، في بحيرة تراكم في قعرها الطمي عبر التاريخ.

ماذا قال الأطرش لحاطوم؟

كان سليم حاطوم الضابط البعثي الوحيد بين ضباط انقلاب 8 آذار 1963، على رأس كتيبته مغاوير كُلفت بحراسة الاذاعة والتلفزيون، ومبنى الأركان العامة المجاور والهاتف الآلي، وجرى تعزيز كتيبته فيما بعد لتصبح بحجم لواء، وبهذا غدا الضابط البعثي الأقوى بين أقرانه، بالتالي رأس الجسر الذي عبر فوقه “البعث” ليمسك بمقاليد السلطة، وكان من بين العابرين صلاح جديد وحافظ الأسد اللذان كانا مسرحين آنذاك. يومها كان حاطوم “فارس البعث”، كما أطلقوا عليه، وقام بزيارة سلطان باشا الأطرش؛ الذي قال في هذا اللقاء لضيفه كما نقل أحد الحاضرين: “يا سليم، نحن أقلية، والأقليات ما بتحكم، نحن دورنا جنود للدفاع عن الأمة، وعندك أنا مثال، قمت بواجبي في سبيل البلاد وما دخلت بألعاب السياسة وكراسيها”. لعل هذا الكلام يختصر رؤية الدروز التاريخية ويرسم قواعد انتمائهم وتفاعلهم من خلالها، والذي عاد وانسحب فيما بعد على نخبهم المتعلمة بحيث كانوا ينشدون الخروج من الحلقة الطائفية كأقلية بالالتحاق بالمشاريع الكبرى قومية أو يسارية يتماهون فيها، ولا سيما عندما بدا لهم بؤس الطبقة السياسية التي تلت الاستقلال والتي أتينا في المقال السابق عليها – (3/1) -. ومن هذه الخيارات، حزب “البعث” فكانت نسبتهم فيه هي الأعلى قياساً الى باقي المحافظات السورية الأخرى حتى أطلق ميشال عفلق على الجبل “قلعة البعث العربي”؛ فبرز في صفوفهم من لعب أدواراً بالغة في قيادة الحزب والدولة السورية فيما بعد، أبرزهم شبلي العيسمي نائباً لرئيس الجمهورية 1965، ومنصور الأطرش من الرعيل المؤسس ورئيساً للبرلمان 1965، ومن العسكرين اللواء حمد عبيد وزيراً للدفاع 1965، إلى جانب سليم حاطوم كما أسلفنا وغيرهم كثير.

التصفيات

بعد انقلاب آذار تنامى الحضور العلوي في الجيش، والذي بدا عفوياً من منظور بعض الحزبيين يصب في خانة ترسيخ سلطة البعث! لكنه كما ثبت فيما بعد كان تكتلاً يترصد الاستئثار بالسلطة فكان له ذلك بعد سلسلة من الأحداث الدامية، أما الضباط الدروز فقد تماهوا في عقيدة البعث ولم يفكروا بالتكتل في ما بينهم، وهذا ربما سهّل اصطيادهم في معمعان صراع القوى الذي عصف بالبعث، وبلغت الذروة في ما عرف بـ “حركة 23 شباط 1966” والتي لعب فيها حاطوم دور رأس الحربة لكن محصلتها جاءت بتعاظم التكتل العلوي في الجيش ومن أبرز تجلياته أن أصبح حافظ الأسد وزيراً للدفاع، وتراجع الحضور الدرزي في الحزب وفي الجيش، فأزيح حمد عبيد من وزارة الدفاع ثم سُرح، ولحق به بعض الضباط الدروز فيما بعد، كما سجن من سجن من مدنيين وعسكريين مثل منصور الأطرش وشبلي العيسمي واللواء فهد الشاعر وهو من أكفاء ضباط الجيش السوري إن لم يكن الأكفاً بينهم، وكاد أن يعدم لولا توسط الرئيس جمال عبد الناصر الذي كان يكن له احتراماً خاصاً. أما سليم حاطوم فكان قد فرّ إلى الأردن، لكن عدوان 1967 استثار حميته فطلب في برقية إلى القيادة السماح له ومن معه من أنصار بالالتحاق بالجبهة، فأجيب طلبه، وما إن وصل حتى اعتقل وأعدم في اليوم نفسه! هكذا تمت التصفيات، أوردناها باختصار شديد، لكن دون ما سبق تفاصيل كثيرة جداً تنضوي تحت عنوان واحد “الغدر”.

اغتيال الدروز!

ترك ما سبق آثاراً في النفوس، لكن أعمق الجراح جاءت بتخوين الدروز في أعقاب نكسة حزيران 1967 ما شكل اغتيالاً وطنياً ومعنوياً لهم، فأمام ما رافق وتلا السقوط الملتبس للجولان! وما طرحه من أسئلة وعلامات استفهام وسخط، وأمام بشاعة خيم النازحين من أبناء الجولان، هربت السلطة من مسؤولياتها، فنفست حالة الاحتقان في الشارع، في صب نقمتها على الدروز، مختلقة روايات عن “خيانة” الفلاحين من أبناء القرى الدرزية الخمس في الجولان، وفي حملة دعائية تولتها مخابرات النظام خلف الأستار، كما استغلت عدم نزوح الدروز من قراهم كدليل على “خيانتهم”! وفي هذا الهيجان المضطرب ليس هناك من يفكر أو ينتبه الى أن هذه الظاهرة غير جديدة، فقبلها جاءت في جبل العرب ابان ثورة 1925 بحيث لم يرحل الأهلون عن قراهم على الرغم مما لحق بها من دمار، وبالكيفية ذاتها فعل دروز فلسطين خلال نكبة 1948، انطلاقاً من أن الأرض وجه من وجوه العرض والشرف في منظومة الدروز القيمية.

بعد مرور الزمن نستعيد بعض حكايا هذه الحملة الدعائية على سبيل الطرفة لما تنطوي عليه من غباء، منها أن أهل مجدل شمس كانوا يرشدون طائرات “الميراج” إلى مواقع الجيش السوري باستخدام المرايا وعلب الحلاوة! لكن للأسف فقد لقي هذا الكلام من يصدقه من الدهماء، حتى بات بعض المعممين من الدروز يتجنبون السير في دمشق آنذاك خشية أن يتعرض أحدهم للاهانة؛ يبقى خير من صور هذه الهستيريا نزار قباني في أبياته الشعرية:

الكلمة في الوطن العربي طابة مطاط

يلقيها الحاكم من شرفته للشارع

وخلف الطابة يجري الشعب ملهوفاً كالكلب الجائع

فكانت طابة المطاط “خيانة الدروز” التي انشغل بها الناس، فنسوا السقوط الملتبس للجولان، وراديو دمشق صباح 10 حزيران يعلن عن سقوط القنيطرة قبل يوم واحد من دخول جيش الاحتلال اليها! وغير هذا وغير ذاك من كثير مما رواه شهود عيان. المفارقة بعد ذلك جاءت عندما وجد النظام الحاجة الى استثمار تشبث دروز الجولان بأرضهم ورفضهم الهوية الاسرائيلية كورقة في مواجهة ضم الجولان.

عام 1973 عاد النظام واستعمل الدروز “ممسحة”، جاء هذا عندما اخترق الجيش الاسرائيلي الجبهة من القطاع الشمالي بعد تدمير الفرقة الآلية السابعة حتى باتت دمشق تحت الخطر. وقد تبين فيما بعد أن الجزء الأكبر من المسؤولية تتحمله قيادة العمليات، الا أنها حُمّلت للعقيد رفيق حلاوة دون سواه. وانتشرت الاشاعات غير البريئة عن اعدامه، فيما هو استشهد مع قائد الفرقة العميد عمر ابرش. وهكذا جرت التضحية بشهادة مقاتل ليغدو قنبلة دخانية تحجب المشهد المأساوي لمخيمات استجدت تحت مسمى “وافدين” ممن نزحوا عن الأراضي التي احتلتها اسرائيل خلال تلك الحرب.

لقد خلفت هذه السلسلة الطويلة من الارتكابات على مدى ستة عقود جراحات عميقة، تركت ندوباً في وجدان أبناء الجبل وفي ذاكرتهم، وحكمت إلى حد بعيد ردود أفعالهم ومقاربتهم للأحداث التي عصفت بسوريا بعد العام 2011. وللحديث صلة.

(غداً الجبل في قلب العاصفة)

إقرأ أيضاً:
دفاتر سورية – “جبل العرب”… الابن الذي جحده الوطن (3/1)

شارك المقال