دفاتر سورية – “جبل العرب”… الابن الذي جحده الوطن “الجبل بين العواصف” (3/3)

لؤي توفيق حسن

تركت معاناة جبل العرب من قيادات البعث والدولة في أعقاب حركة  23 شباط 1966 آثاراً عميقة حفرت في ذاكرة أبنائه كما سبق وبيّنا في المقال السابق. وهنا يجب كما تقتضي الموضوعية أن نعترف بأن الرئيس الراحل حافظ الأسد حاول بعد وصوله إلى الحكم – 16 تشرين الثاني 1970 – أن يستوعب تلك الآثار فكان للجبل نصيب وافر من مشاريع التنمية، وبقي الحال على الوتيرة نفسها أو زاد خلال السنوات الأولى لحكم ابنه الرئيس بشار الذي حمل مجيئه آمالاً في تطوير النظام، مما رفع من رصيده، لكن ماذا حدث بعد ذلك حتى انقلب الحال؟

مكره أخاك لا بطل

لم يعدم الجبل مع بدايات “الربيع السوري” وجود شريحة وازنة من مثقفيه معارضة للنظام على خلفية الرفض لحكم الحزب الواحد والمناداة  “بدولة ديموقراطية برلمانية وبتنوع حزبي”، ولا سيما بعد أن خابت الآمال بتحقيق الاصلاحات المرجوة، ومع ذلك لم ينخرط الجبل في الحراك المسمى “ثورة” حتى تتوضح هويته، التي فيما بعد أخذت طابعاً طائفياً ثائرياً ألحق بها أضراراً، كما وأن وجود عشرات الرؤوس فيها من جانب آخر شتّت قواها وجعلها تقع في أيدي التكفيريين فغدت الثورة هي “داعش” و”النصرة”، أو العكس! وكانت مشاهد الذبح والتنكيل على أيديهم دعوة للالتفاف حول النظام وعلى قاعدة “مكرهٌ أخاك لا بطل”. لقد وقع الجبل في دائرة استهداف هؤلاء التكفيريين وحلفائهم من بعض قبائل البدو التي أمدوها بالسلاح، فبات عرضةً لاغاراتهم قتلاً وتخريباً وخطفاً، وغدا تكفير الدروز علانية من على منابر المساجد وبالأخص من محافظة درعا المجاورة خطاباً مألوفاً، مما خرّب علاقات المودة بين الجوارين؛ ثم جاءت مجزرة (قلب لوزه) – محافظة ادلب – لتدفع بالدروز إلى الحائط فأصبح خيار القتال إلى جانب النظام تحصيلاً حاصلاً، ومن هنا شارك أبناء الجبل من عسكريين خلال السنوات الأولى للحرب في المعارك التي خاضها الجيش السوري في مواجهة التكفيريين وسقط منهم على وجه التقدير ما يربو عن 1500 شهيد بين جنود وضباط.

النظام يتداعى

ما لبثت الأمور أن انعطفت بحدة مع تعاظم الانشقاقات، فأخذ النظام  يتساقط لبنة لبنة. انشقاقات طالت كل مستويات بنيته الهرمية مدنية وعسكرية تبدأ من رئيس الوزراء رياض حجاب إلى محافظين وقادة فروع أمنية، وعسكريين من مختلف الرتب، وأخذت بالاتساع ظاهرة تهاوي مواقع عسكرية ليس بالمعارك وانما بخيانات موصوفة من بعض ضباطه! كذلك حال مدن ومناطق وفي بازار مفتوح من الرشاوى فانطبق المثل الدارج  “حاميها حراميها”. مسلسل من الهزائم استولده الفساد الذي تربى في أحضان النظام ثم خرج عليه عندما رآه يضغف. لكن وللأمانة فان ما سبق لا يصح تعميمه، اذ هناك من انشق لاعتبارات مبدئية تتصل بموقفه من النظام، وأمام هذا الانهيار رفع الأخير من وتيرة شد العصب العلوي والذي ارتسم في  شعارات محض مذهبية نافرة، ما زال بعضها على شاشات مواقع التواصل، ربما ألطفها كانت مقولة “الأسد أو نحرق البلد”.

الجبل في عين العاصفة

أصبح الجبل في عين العاصفة وقد بات شبه محاصر، وسقط له شهداء بنيران التكفيريين يستهدفون قراه، إلى جانب من سقط من أبنائه العسكريين غدراً ضحية الخيانة كما سبق وذكرنا، وبين هذا وذاك صار الجبل على قول المتنبي:

وسوى الروم خلف ظهرك

روم فعلى أي جانبيك تميل

ومال الجبل مجدداً نحو النظام مستنجداً به، مطالباً بتوزيع السلاح على الأهلين لثلاثة اعتبارات: وضع الجبل كجبهة حرب، وعدم امكان الجيش تغطية هذه الجبهة، وأخيراً الخشية من خيانات قياساً الى ما حصل في أماكن عدة أدى الى سقوطها. غير أن السلطة لم تتجاوب وحين فعلت جاء السلاح من الأنواع القديمة المنسقة! وهذا بخلاف ما جرى في مناطق الساحل السوري؛ ولعل ما سبق طرح المفارقة بين مكانين، جبل أخلص وسقط من بين صفوفه الشهداء عسكريين ومدنيين وخرج من أبنائه قادة مجلين في الجيش مثل العميد عصام زهر الدين الذي قاد باقتدار وشجاعة جبهة دير الزور المطوقة، يوازيه مشهد تقاعس السلطة عن نجدته بالسلاح ليدافع عن نفسه، ودم أبنائه يراق يومياً من جانب التكفيريين. ولكن العجب العجاب جاء عندما أغدقت السلطة السلاح على من حاربها بالأمس من ميليشيات تكفيرية  في ما عرف بـ”اتفاق التسوية” وباتت هذه الميليشيات تحت الرعاية الروسية ضمن تشكيل عسكري أطلقوا عليه اسم “الفيلق الخامس” ولتصبح فيما بعد مخلباً تستعمله السلطة للضغط على أبناء الجبل عقاباً لهم لرفضهم الالتحاق بالخدمة الالزامية كما سنبين لاحقاً. لقد نكأت هذه المفارقة الجراح الغائرة والتي سبق وتحدثنا عنها في الحلقتين السابقتين – ( 1/3) – و ( 2/3)، ومن هذه المعاناة تشكلت قناعة عند أبناء الجبل بأنهم متروكون لمصيرهم.

 “يا وحدنا”

لم يعد أمام الجبل الا أن يعتمد على نفسه؛ ومن مقولة “يا وحدنا” نشأت وحدات دفاع شعبية للذود عنه، وتداعى الناس لشراء السلاح والذخيرة، ولم يجدوا صعوبةً في هذا اذ كان السلاح متوافراً وأرباب تجارته في الغالب من صفوف الجيش، ومن سرقة مخازنه، وبهذه خاض أبناء الجبل معاركهم الدفاعية عن قراهم وحقولهم، بل كانوا مؤازرين للجيش خلال عدة مواجهات أكبرها – عام 2015 – معركة مطار الثعلة القريب من مدينة السويداء والتي دامت لأيام، وخفّ اليها أبناء الجبل. كما واجتمعت النساء في البيوت لطهو الطعام للجنود، حتى أنه نقل عن بعضهم القول: “لم نشبع الطعام الا في مطار الثعلة بفضل كرم الدروز”، وليس في هذا أية مبالغة متى علمنا بأن سرقة مخصصات الطعام في كتائب الجيش من قِبل الضباط القيّمين حالة سائدة، فلا يصل الى العسكر منها الا القليل، وهذا أمر فضحته بجرأة الدراما السورية في مسلسل “الولادة من الخاصرة”.

حيال تعاسة هذا الواقع امتنع أبناء الجبل عن الالتحاق بالخدمة الالزامية التي صارت محفوفة بالمخاطر من غدر خائن وسبق من جرائها أن سقط من أبنائه العديد من الشهداء، وعليه توافق الجبل على عدم التحاق المدعوين للخدمة الالزامية ما لم تكن ضمن محافظة السويداء والتي هي بحد ذاتها ساحة حرب.

الفجوة 

اعتبرت السلطة أن ما سبق موقف عدائي من الجبل، مما زاد الفجوة بينهما، فقابلته السلطة بعقاب الجبل من خلال إرباكه بحوادث أمنية تارة من جماعة “الفيلق الخامس” الذي ذكرنا وتارة من عصابات على ارتباط بالأمن، قامت بالخطف وطلب الفدية أو “تأديب” المعارضين، وهو أسلوب جديد استبدل فيه الأمن قبضته التقليدية بفرعه الآخر من “الشبيحة”، وزادت عليه السلطة بتقنين مستلزمات الحياة وأهمها الخبز والوقود للتدفئة ما خلق بالتوازي سوقاً سوداء محمية؛ هذا وإلى كل ما يؤدي الى ارباك الحياة واثارة الفتن بين الناس على قاعدة المثل الدارج “الفقار بجيب النقار”. غير أن هذه الحيلة لم تنطلِ على أبناء الجبل وتداركوها بأن جعلوا “النقار” مع شبيحة السلطة، وكان آخرها القضاء على عصابة راجي فلحوط الرديفة للأمن العسكري، وبتجاوز ارباكات الافقار إلى حيث يجب وإلى حيث غابوا عنه مضطرين، شاهرين قبضاتهم في وجه بيت الداء: النظام المتهالك والفساد والظلم، وهؤلاء هم الأشد فتكاً على قول سيمون بوليفار:

” اذا كانت الحرب خلاصة كل الشرور، فالاستبداد خلاصة كل الحروب”.

شارك المقال