النكبة السورية

اكرم البني
اكرم البني

والقول بالنكبة يعني الاعتراف بأن ما وصلت إليه سوريا يمكن تصنيفه كأسوأ الأزمات الإنسانية في العصر الحديث، وتتجلى بعنف سلطوي منفلت أمعن تخريباً وتدميراً في حيوات الناس وممتلكاتهم، وخلّف مئات الآلاف من القتلى ومثلهم من المفقودين والمعتقلين وتفوقهم أعداد الجرحى والمشوهين، عدا عن ملايين اللاجئين إلى بلدان الجوار وغيرها، أو الهاربين نزوحاً داخلياً، وقد باتوا بلا مأوى ويكابدون حالة قهر وعوز شديدين بعد أن فقدوا كل ما يملكون أو يدخرون.

وتتجلى أيضاً بأوضاع اجتماعية واقتصادية لم تعد تحتمل، مع تدهور قيمة الليرة السورية وشروط العيش وتفشي غلاء فاحش لا ضابط له، وانهيار الكثير من القطاعات الإنتاجية والخدمية وتهتك الشبكات التعليمية والصحية، حيث بات ملايين الأطفال بلا مدارس أو رعاية طبية، والأسوأ بما أفضى إليه العنف المفرط والاستفزازات الطائفية من تشوهات وانقسامات في المجتمع، ومن شحن العصبيات وروح التنابذ والنزاع، ما شجع عودة كل مكون اجتماعي إلى أصوله القومية أو الدينية أو الطائفية كي يضمن بعضاً من الحماية والأمان، ما يهدد النسيج البشري المتعايش منذ مئات السنين بالانشطار إلى هويات ممزقة!

وأحد أسباب النكبة ابتلاء السوريين بسلطة تزدري السياسة، وترفض وقف العنف، ولا تقبل تقديم التنازلات أو أية مساومة لفتح الباب أمام حلول سلمية… سلطة تدعي الوطنية، لكنها اختارت نهجاً بغيضاً بدا كأنه مبيت أو محضر مسبقاً لاستجرار ما هب ودب من قوى أجنبية لقهر شعبها، ولتحويل الصراع من صراع سياسي وسلمي إلى صراع مسلح تشحنه الغرائز الطائفية، بل تصرفت أركانها كأنها في معركة وجود أو لا وجود، وأن ليس من رادع يردعها في توظيف مختلف أدوات القهر والفتك حتى آخر الشوط حفاظاً على كرسي الحكم ومراتع الفساد والامتيازات، مستهدفة المواطنين الأبرياء وأماكن سكنهم في معظم المدن والأرياف السورية، قتلاً وتدميراً وضغطاً على حاجاتهم وشروط معيشتهم دون اهتمام بانعكاس ذلك على اللحمة الوطنية، وعلى دوافع المواطنين المنكوبين للبقاء جزءاً من المجتمع الواحد.

في المقابل يدرك السوريون بأنهم نكبوا أيضاً بمعارضة لم تكن على “قد الحمل” ولا تزال وللأسف بالرغم من فداحة الدماء والتضحيات، تنوء تحت ثقل نزاعات لا طائل منها ويعيبها بطؤها في تدارك سلبياتها وامتلاك زمام المبادرة، والأهم عجزها المزمن عن توحيد صفوفها وتقديم رؤية لمسار الصراع وللآليات السياسية الكفيلة، ضمن خصوصية المجتمع السوري بتعدديته وحساسية ارتباطاته، بتبديل التوازنات القائمة بأقل تكلفة، عدا عن أنها لم تنجح وللأسف، بإظهار نفسها كقدوة حسنة في المثابرة والتضحية ولم تبذل ما ينبغي من الجهود لإعادة الوجه الأخلاقي للثورة، ليس فقط من زاوية معالجة العنف وتداعياته، وإنما أيضاً من زاوية رفع قيمة الإنسان، كروح وذات حرة، والمجالدة لضرب المثل بسلوك ينسجم مع شعاري الحرية والكرامة ويبدي أعلى درجات الاستعداد للإيثار واحترام التنوع والتعددية وحق الاختلاف.

زاد الطين بلة تنامي وزن جماعات اسلاموية متطرفة، وجدت في مناخ تسعير الصراع المذهبي فرصة ثمينة لفرض وجودها، وإخضاع قطاعات مهمة من السوريين لأجندتها، مدعومة بمال سياسي لا تخفى شروطه وإملاءاته، وبعناصر وكوادر أجنبية على صورتها ومثالها، جاءوا من مختلف البقاع، ويتنافسون على فرض ما يعتقدونه شرع الله على الأرض، عبر إرهاب البشر وإرغامهم على اتباع نمطهم في الحياة وإنزال أشنع العقوبات بحق من يخالفهم، من دون اعتبار لتعددية المجتمع السوري وتنوع مكوناته ولشعارات ثورته عن الحرية والكرامة والدولة المدنية.

وأحد وجوه نكبة السوريين ليس فقط تعدد الاحتلالات الأجنبية التي تقتطع أجزاء من أرضهم، وإنما أيضاً سلبية الرأي العام تجاه ما يكابدونه، حيث صارت قصص موتهم وخراب بلادهم مجرد عناوين في نشرات الأخبار، وأصبحت المشاهد اليومية للتدمير والقتل والتنكيل والاعتقال أشبه بمشاهد روتينية يتابعها الناس وكأن لا شيء مؤلم ومهين يحدث لأخوتهم في الانسانية، والأسوأ ابتلاؤهم بسياسات عربية ودولية لا تجد تفسيراً لديهم سوى أنها “مؤامرة كونية” ضدهم يحدوها الصمت أو التواطؤ لتغطية عنف النظام وتمرير إمعانه في قهر الأبرياء وامتهان كراماتهم، ولا يغير هذه الحقيقة ما يقدمه هذا الطرف أو ذاك من معونات لتلطيف حياة المتضررين أو المجاهرة بإدانات للنظام وبمختلف اللغات، لكن لم تتجاوز برودة الكلمات، ربما من باب رفع العتب، وربما لامتصاص الضغط الأخلاقي الناجم عن مشاهد مروعة لا تحتمل، وربما كي لا يذكر التاريخ أن الانسانية لاذت بالصمت بينما كانت آلة الموت والدمار تعمل بأقصى طاقتها.

والحال، لم يشهد التاريخ بؤرة صراع دموي أهملت من قبل العالم وعرفت هذا الاستهتار المخزي بالأرواح التي تزهق كما سوريا، والأنكى حين ترعى ما يحصل ثورة الاتصالات ولغة الصورة التي تصل إلى كل بيت وتكشف للبشرية ما يعجز اللسان عن كشفه وقوله، ما يطرح سؤالاً مشروعاً، لماذا تركت سورية تحديداً لهذا المصير المرعب؟! ولماذا هي من دون سواها لا تثير اهتمام أحد، وكأن الجميع، عرباً وعجماً، يتعيشون على أنات الضحايا والمعذبين وكأنهم بحكوماتهم وشعوبهم “يستمتعون” بالفرجة على فظاعة الخراب ودوامة الفتك اليومي!

إن الدرس الأعمق الذي لن ينساه السوريون أبداً في نكبتهم، هو حجم مسؤوليتهم عن قيام الاستبداد ودوام استمراره، وأن ما من جهد يجب ان يوفر أو يؤجل بعد اليوم لمنع إنتاج ظواهر الاستبداد والتمييز في الدولة والمجتمع مستقبلاً، جهد يمتد في مختلف حقول الحياة، في السياسية والدين وأيضاً في الثقافة والتربية والتعليم والعلاقات الاجتماعية.

شارك المقال
ترك تعليق

اترك تعليقاً