فرنجية… لماذا ترفضه السعودية؟

أنطوني جعجع

اذا كان صحيحاً أن المملكة العربية السعودية ترفض التوقيع على أي نصاب يضمن انتخاب سليمان فرنجية رئيساً للجمهورية، حسب ما يروّج عائدون من الرياض، فلا بد من البحث في الأسباب، العلنية منها والخفية التي تحوّل الرجل الى ما يشبه “بعبع” أهل الخليج.

أصحاب الحل والربط في الرياض يلتزمون الصمت المطبق حيال موقفهم الحقيقي من رئيس تيار “المردة” خصوصاً والمرشحين الاَخرين عموماً، من دون أن يعني ذلك أنهم لا يحتفظون في جيوبهم بالورقة التي تحمل اسم الرئيس الذي يسوّقون له خلف الأبواب المقفلة.

ويتفق أكثر من مراقب محلي واقليمي على أن فرنجية، قضى على معظم فرص التقارب مع السعوديبن نتيجة أمرين أساسيين: وقوفه في خط “الممانعة” في سرائها وضرائها من دون أي اعتراض أو تصويب، ووقوفه الى جانب مناصرين له تعرضوا للمملكة قصداً أو عفواً، محاولاً لعب دور القائد الذي لا يتخلى عن جنوده لأي سبب من الأسباب.

وأضاف هؤلاء أن فرنجية دفع ثمن “شهامته” في مكان وثمن ولائه المطلق في مكان آخر، فلم تؤد به الشهامة الى الهدف المنشود تماماً كما حال الولاء المطلق، فخسر من وفّر له الحماية ولم يربح من وفّر له الغطاء.

ويتابع هؤلاء أن رئيس تيار “المردة” أغاظ السعوديين عندما تمنّع عن محاسبة وزيره جورج قرداحي الذي تعرض لدور المملكة في اليمن، متجنباً اتخاذ أي موقف يتعارض مع موقف “حزب الله” المتماهي مع ممثل فرنجية في الحكومة، لافتين الى أن الرجل تأخر كثيراً في لملمة ما حدث، وفوّت عليه فرصة الظهور بمظهر رجل الدولة الذي يجيد لعبة التوازنات الدقيقة في المفاصل السياسية المحرجة والحامية.

وأكثر من ذلك، لم يحاول الرجل إجراء قراءة مستقلة للمتغيرات الاقليمية والدولية خارج القراءة التي يجريها محور “الممانعة”، مسلّماً بما يقررونه أو بما يرونه أو بما ينشدونه من دون أي محاولة منه للظهور بمظهر الرجل الذي يملك حيثية خاصة، الى حد ما خارج قصر المهاجرين من جهة وخارج الضاحية الجنوبية من جهة آخرى، ومعتبراً أن أي خروج على هذا الخط هو بمثابة السقوط في الفراغ أو بمثابة التحول الى مجرد زعيم بلا تأثير أو دور أو نفوذ.

ويسأل مسؤول عربي متابع: كيف يمكن لطامح مزمن الى رئاسة الجمهورية في بلد متعدد الطوائف والأهواء والخيارات أن يهنئ نفسه لأنه “عاش في زمن حسن نصر الله” الذي قال في السعودية وأهل الخليج ما لم يقله “أبو نواس” في الخمرة، وأسقط حليف الرياض الأول في لبنان رفيق الحريري وبعده أركان “الرابع عشر من اَذار” والعاصمة بيروت، وكيف يتمسك بالرئيس السوري بشار الأسد الذي شارك في اغتيال الحريري، وارتكاب مجازر ضد الغالبية السنية في سوريا، واحتضان “حزب الله” الذي يسهم في تدريب الحوثيين في اليمن على صنع الصواريخ واطلاقها، فضلاً عن ادارة شبكات تهريب الكبتاغون في اتجاه المملكة ومنطقة الخليج؟

ويضيف المسؤول نفسه متسائلاً: هل يمكن للسعودية أن تتبنى ترشيح رجل يغطي وزيراً قد يكون متورطاً في تفجير مرفأ بيروت هو يوسف فنيانوس، وهو التفجير الذي طاول حسب السعوديين، مواد قاتلة كان يستخدمها النظام السوري في حربه على المعارضة السنية؟

وأكثر من ذلك، يقول ديبلوماسي عربي: “لنفترص أن فرنجية ليس متورطاً عملياً في هذه الجرائم، وهو كذلك، فلماذا يصر على الاضطلاع بدور الحليف الأصدق والأقوى لمحور يكاد يعادي الكرة الأرضية من أقصاها الى أقصاها؟”.

ويضيف: ان فرنجية ربما يكون الرئيس الأفضل للجمهورية في هذه المرحلة اذا تمكن من الوقوف في الوسط بين محوري “السيادة” و”الممانعة”، لكن ذلك دونه عقبات أبرزها على الاطلاق أنه بات أسير مواقفه ومبادئه لا بل أسير “فروسيته”.

وقد يكون في هذا المشهد الخليجي القاتم الكثير من المبالغة التي ألغت رصيد فرنجية الشعبي والسياسي وقربه من الناس، فضلاً عن طبيعته التصالحية والانسانية، لكن المصالح لا ترحم في لعبة الكبار ولا تتحول الى جمعيات خيرية ولا تتأثر بأي شيء لا يخدم أمنهم واقتصادهم وموقعهم الاستراتيحي سواء اقليمياً أو دولياً.

والواقع أن فرنجية، الذي تراجعت شعبيته حتى في عقر داره في الانتخابات النيابية الأخيرة، لم يقر بخطأ خياراته أو على الأقل بتأثيرها السلبي عليه، ولا بمزاج الناس المتعاطف مع قوى التغيير، فأكمل طريقه نحو دمشق والضاحية، وفق حسابات لديه تفيد أن الغلبة لا بد أن تكون لأهل “الممانعة” وأن كرسي الرئاسة لا بد أن تكون لواحد من رجالها، على غرار ما حدث منذ الطائف حتى وصول ميشال عون الى بعبدا.

والواقع أيضاً أن فرنجية كان يعرف أن خطه السياسي بات عبئاً عليه، لكنه لم يكن قادراً على فرض نفسه أو نجله جزءاً من التغيير المطلوب، ولم ينتبه الى أن الثنائي عون – جبران باسيل أحرق الطريق الى قصر بعبدا لأي مرشح يتماهى مع مسارهما، سواء كان براء منهما أو شريكاً لهما، وقطع الطريق على أي خليفة يأتي من قوى “الثامن من اَذار” حتى لو كان من طينة “القديسين”.

وبهذا يكون فرنجية ضحية ممارسات ارتكبها سواه، وضحية مبادئ اعتقد أنها الوسيلة الوحيدة والأصدق في علم السياسة، فلم يتعلم فن التقلبات على غرار وليد جنبلاط، ولا فن الثعلبات على غرار نبيه بري، ولا فن المغامرات على غرار حسن نصر الله، ولا فن الطعنات على غرار جبران باسيل، ولا فن الشعارات على غرار ميشال عون، ولا فن المناورات على غرار سمير جعجع، فسقط، كما سعد الحريري، في حفر نصبت لهما سهواً أو قسراً.

وأكثر من ذلك، وحتى الاَن على الأقل، يمكن القول ان سليمان فرنجية أعطى الكثير من رصيده الشخصي ومن رصيد عائلته منتظراً أن يثمر الصلح مع سمبر جعجع نوعاً من الهدنة، والتضحية مع ميشال عون نوعاً من الوفاء، قبل أن يكتشف أن السياسة شيء والساسة شيء آخر.

ويسأل مصدر قريب من الرياض في هذا الصدد: لماذا تجد السعودية نفسها مضطرة الى التدخل علناً من أجل اسقاط فرنجية في منتصف الطريق، ما دام جبران باسيل وسمير جعجع يتكفلان بذلك، الأول لأسباب تنافسية والغائية، والثاني لأسباب مناطقية وسياسية؟

انه في اختصار، الرجل الذي يأتي من خلفية مناطقية تاريخية ومن أرضية مارونية ملتزمة، متجاهلاً أو متناسياً أن صراع الديوك في الشمال عالق في سياسة اللاحرب واللاسلم، وأن صراع الكبار بين الشرق والغرب تحوّل الى اعصار يجرف كل من يعترض طريقه، وأن زمن ما بعد الطائف لم يعد يقبل في قصر بعبدا، رئيساً يستطيع في لحظات التحدي أن يعتمد على بيئته عندما تتنكر له بيئة الآخرين.

شارك المقال