بلدية بيروت… إصلاحها بإعادة صلاحياتها

زياد سامي عيتاني

من الواضح أنّ هناك سباقاً شعبويّاً على تقسيم بلدية بيروت، تحت ذرائع مختلفة، بغض النظر عمّا إذا كانت ستحصل الانتخابات البلدية، أم سيتم إرجاؤها (وهو المرجح)، بسبب الأزمات المتعدّدة الأبعاد التي يتخبّط بها البلد، في ظل الفراغ الرئاسي، والانهيار المالي والاقتصادي، فضلاً عن عدم توافر الامكانات اللوجستية لدى وزارة الداخلية، التي تحتاج الى مبلغ تسعة ملايين دولار لتغطية نفقاتها، بحيث يحتاج الى مشروع قانون يصدر عن مجلس النواب، الذي يتعذّر عليه إقراره، لأنّه بحكم الفراغ الرئاسي، تحوّل تلقائياً إلى هيئة ناخبة.

والمستغرب أنّ دعاة تقسيم بيروت بلدياً، لا يفقهون في قانون البلديّات، وتحديداً في ما خصّ بلدية بيروت، وعلى وجه الخصوص ما هو متعلق بالصلاحيات. فقد نصّت المادة ٦٧ من قانون البلديات على أنّه “يتولى السلطة التنفيذية في البلدية رئيس المجلس البلدي، وفي بلدية بيروت يتولاها المحافظ”. وهذا الاستثناء “الأعوج” لبيروت في قانون البلديات، تسبّب تاريخياً بصراع بين البلدية والمحافظ.

إذاً، موضوع بلدية بيروت ليس مستجداً على لائحة الملفات الخلافية المتراكمة، بل يعود إلى ثلاثينيات القرن الماضي، اذ تعاني بيروت من تضارب في الصلاحيات بين السلطة التقريرية (المجلس البلدي) والسلطة التنفيذية (المحافظ)، مشكلة عقّدها السياسيون حينها، ولم يوجد لها حلّ منذ عشرات السنين، فكلّ من يفكر في حلّ، يصطدم بالطائفية والمذهبية.

لقد رسم الفرنسيون لجعل بيروت عاصمة للكيان المولود، على الرغم من أنّه في منتصف القرن العشرين، وتحديداً ما بين العامين 1932 و1941، كان عدد سكانها 8 آلاف شخص، في حين كانت طرابلس (شمال لبنان)، تضمّ 80 ألف شخص، الأمر الذي كان يمكن أن يجعلها العاصمة سواء لناحية عدد السكان الأكبر، ولوجود مرفأ فيها.

وكان هدف الفرنسيين تحقيق نقاط عدة عسكرياً وسياسياً، لأنّ مصلحتهم تقتضي أن تكون العاصمة أقرب إلى دمشق، إذ كان لديهم وجود في سوريا، وبيروت أقرب إليها من طرابلس.

كما كان في بيروت تنوّع ديني مع الأخذ في الاعتبار أنّ عدد السكان أقل، واستطاعت في فترة زمنية قصيرة تطوير المرفأ وتفعيل الحركة الاقتصادية فيها، حتى تلعب دوراً مهماً، فأنشأت المحجر الصحي، الذي يتم العبور منه إلى بلاد الشام، أو أي دولة أخرى عبر لبنان، وهو ما جعل بيروت عاصمة لدولة لبنان الناشئة.

وفي العام 1930، أنشأ الفرنسيون فكرة المحافظات، وكانت بيروت الوحيدة محافظة، ومركزها بيروت، وهي العاصمة، وقسّمت كلّ محافظة إلى أقضية إلّا بيروت بقيت مدينة ومحافظة وبلدية، الأمر الذي خلق مشكلة إدارية، يشكو منها كلّ رؤساء البلديات المتعاقبين أو المحافظين، لا سيما على صعيد العلاقة الادارية التي تربط رئيس البلدية بالمحافظ، مع الاشارة إلى أنّ بيروت إنتخابياً مقسّمة إلى دائرتين الأولى والثانية، كما قُسمت في بعض الدورات إلى ثلاث دوائر.

تبعاً لذلك، فإنّ المشكلات الادارية في بيروت هي مشكلات تاريخية، علماً أنّه في مراحل سياسية كثيرة كانت بيروت من الناحية المالية تتفوّق على الدولة من حيث الميزانية. فبإستمرار، كان الخلاف مستحكماً بين محافظ بيروت الأرثوذكسي ورئيس البلدية السني. وبين فترة وأخرى تتجدّد المعركة السياسية حول قرار العاصمة ومرجعيتها البلدية.

وهذا الواقع البلدي “الشاذ” في بيروت، كان يتسبّب باستمرار بعرقلة العمل البلدي والاطاحة بمشاريع إنمائية للعاصمة، التي تكون ضحية الصراع على الصلاحيات، تبعاً لمزاجية المحافظ. فالمجلس البلدي لمدينة بيروت ليست لديه أي سلطة تنفيذية على الاطلاق، وبالتالي فإنّ جميع قراراته يجب لكي تنفذ، أن تحظى بموافقة المحافظ، خلافاً لكل بلديات لبنان. وقد تسبب ذلك، بانعدام القدرة على محاسبة المجلس البلدي، الذي لا يملك أي سلطة على أصغر موظف في البلدية.

إذاً، يتضح من خلال هذا العرض أنّ معالجة المشكلة المزمنة، لا تكمن في تقسيم البلدية، بل في إعادة النظر بالصلاحيات، أو كحد أدنى تنظيم ما هو قائم. فبلدية بيروت لا يمكن أن تفعّل، لتلبية إحتياجات العاصمة، إذا ما إستمر الوضع على هذا المنوال من التناحر بين السلطتين، الذي تسبب بوقف كثير من المشاريع الانمائية.

لذلك، المطلوب واحد من حلين:

– إما أن تتمتع بلدية بيروت بكامل الصلاحيات، إسوة بباقي البلديات. وهذا أمر لن يحصل لاعتبارات طائفية، إلا في حال تمّ التوافق، على المداورة الطائفية في ما خصّ منصب رئيس المجلس البلدي، وهذا الطرح أيضاً مستبعد في ظل غياب رجال دولة يتمتعون بالحكمة وبعد النظر الوطني.

– أو أن يصار إلى إصدار قانون يحدّد بدقة وبالتفصيل صلاحيات كلّ من السلطتين وحدود كلّ منهما بحيث ينتفي أيّ تأويل أو إجتهاد، يلزم السلطة التنفيذية في بيروت، تنفيذ قرارات المجلس البلدي، ضمن مهلة محددة، أو ردّها لأسباب معلّلة، كي لا تبقى رهينة مزاجية سلطة المحافظ وأهوائه، والضغوط السياسية التي يتعرض لها.

من هنا يمكن الاستنتاج أنّ الأصوات المرتفعة المنادية بتقسيم بلدية بيروت، ليس الهدف منها الانماء المتوازن للعاصمة، بل المؤكد، الهدف هو تحقيق الفديرالية الادارية والمالية تمهيداً للفديرالية السياسية، بحيث تصبح البلدية بديلة للدولة، تتولى بنفسها إدارة شؤون المناطق.

شارك المقال