يتصرفون كأنهم فوق البشر

علي نون
علي نون

كان يمكن الإفصاح بانشراح عما يعتمل في صدور كثير من اللبنانيين في هذه الأيام الفظيعة والعصيبة، لولا أن الخطب جلل والناس في وجل والدنيا مقلوبة والأمة مغلوبة والأمور معطوبة والإرادات مسلوبة .

ولأن دواعي احترام الذات تستدعي الخفر، يمكن الاختصار وإنزال منطق العقل في محل الغريزة الطافحة، والقول باحترام للمنطق وأحكامه وبداياته وخلاصاته: إن هذه النهايات والمآلات والظواهر والفواحش والبلايا السوداء، ليست سوى النتيجة الوحيدة لسياسة عصر الممانعة وقائد مسيرتها وحساباته الأنوية الأولى، وارتباطاته المكشوفة والمستورة، وتوغّله في الكيد، والسعي إلى السيطرة والسلبطة، وتثبيت شططه المألوف في استخدام العنف، أدلجة وفكراً وسلاحاً وأحادية ونهجاً، ثم في محاولة تمكين نهجه ذاك على بيئة تعجّ بالأغيار وموسومة بالتنوع الصعب، ومفطورة على نبذ الاستبداد والاستعباد وتقديس الحريات بكل ضروبها وعناوينها ومعانيها، عدا عن كونها صعبة المراس والرأس، وتعانق النكاية وتجعلها في مصاف صنو الروح، حتى لو راحت فداها!

لكن بالرغم من ذلك، يمكن الردح بأعلى الصوت بإن أحوالنا هي نتاج الشطط الخطير في قراءة أحوال العامة من زاوية خاصة، والتعامل مع الدنيا وكأنها عليا، وإخراج النص الديني وطقوسه من حدودهما الانتمائية الذاتية ومحاولة جعلهما شيئاً جماعياً عاماً وواجباً وبديلاً عن سواه وملغياً لما عداه. ويمكن الجهر بذلك وأكثر طالما أن سردية “لو كنت أعلم ” تبدو في ذهن صاحبها وعرفه، أنها كافية ووافية لتغطية كل مثلبة ونكسة وبليّة وكارثة. وطالما أن التواضع والإقرار بالغلط ليسا في جدول الأعمال. وطالما أن الاعتذار ليس من الأدبيات المستساغة عند أصحاب النهج القويم، والإرادات الإلهية، والمهمات الجليلات والتاريخيات. وطالما أن دواعي استحضار التاريخ توازي وتؤاخي الحفر في الجحور والنبش في القبور وإعلاء شأن كل فتنة ممكنة!

 ويمكن بكل ما في الكون من أسى وضنى، التأكيد مراراً وتكراراً بأن تعامل أنصاف الآلهة مع عموم البشر لا ينتج سوى الفناء والامّحاء. أنصاف الآلهة لا يقبلون أنصاف الأحكام، ولا أنصاف الحلول، ولا أنصاف المآلات، ولا يطيقون الأصوات العالية ولا الواطية، ولا يعترفون أصلاً وفصلاً وقولاً وفعلًا بأنه يحق للعامي أن يكون له صوت، أو رأي، أو حكم على شؤون هذه الدنيا وأمورها وتدبيراتها من عندياته.

ولأنه لا يمكن المجادلة أو المحاججة مع التنزيلات الوضعية المدعية النطق باسم السماء وراعيها ومبدعها وخالقها، فإنه لا يمكن استطراداً المحاججة مع ما دون ذلك بكثير، مع الفرض والإكراه السياسيين ومع الصاروخ الداعم والمساند لصاحب الشأن المؤلّه، ومع الساعي إلى مسعاه والداعي إلى رؤاه والداعس على غيره كأنهم غبار الفيافي والصحارى، أو كأنهم زبد يذهب جفاء، ولا يبقى غيره هو في الأرض.

معضلتنا أننا بشر نواجه من هم فوق البشر، وهذه في تصريفات وحكايات ايامنا وليالينا وصفة تامة للعبث والهستيريا، أو بلغة أخرى، وصفة مثلى لسردية حوار الطرشان، سوى أنه في حالتنا مكسور مسبقاً باعتبار أن الحوار المدّعى ليس حيثية موجودة أو مقدّرة أو محترمة إلا عند العاديين والأرضيين مثلنا، فيما أنصاف الآلهة هؤلاء يأمرون ويُطاعون… ولا شيء آخر!

… ليست هذه النهايات سوى النتيجة المثلى لتلك البدايات، وليس القول تكراراً “لو كنت أعلم” سوى تثبيت وتأكيد لفرضية انكسار منطق الدنيا وأساسها التسووي، وسيادة الشطط على العقل والتعقل، والغلط على كل صحّ، والدوغما على المنطق، والقهر والظلم على العدل، وبالتالي وبكلام آني وعاجل، لم يكن ممكناً إلا الوصول إلى ما وصلنا اليه حيث أن مشكلتنا وجودية وليست سياسية ولا دستورية، وحيث أن صاحب الشأن الدستوري الأول فتح معركة مع كل بيت لبناني، ومع عموم الخارج القريب والبعيد، ولم يكن ليفعل ذلك لولا أنه نصف إله مدعوم بنصف إله آخر! والاثنان أطبقا علينا نحن الأرضيين الخ…

شارك المقال
ترك تعليق

اترك تعليقاً