“لقاء بكين”… مصالحة أو اتفاق على الورق؟

أنطوني جعجع

علام يستند المرحبون بالتقارب السعودي – الايراني في تعاملهم معه كمقدمة لحلول مرتجاة كانت حتى الأمس القريب من الأمور المستعصية ان لم تكن شبه المستحيلة؟

سؤال يطرح نفسه بقوة في أكثر من مكان وأكثر من جهة، من دون أن يلقى أي تفسير مقنع يتعدى الاقتناع العام بأن ما جرى في العاصمة الصينية على أهميته، لم يكن “أكبر من سلام بين خصمين ولا أقل من هدنة بين جارين”.

والواقع أن ما لم يتنبه اليه المرحبون بشدة أو بتحفظ، هو فترة الشهرين “التجريبيين” التي وضعتها السعودية على الأرجح، قبل تبادل السفراء، وقبل الانتقال من مرحلة التربص الى مرحلة الاسترخاء، وقبل الكلام على مصالحة نهائية.

حتى الآن يجمع المراقبون على أن التقارب السعودي – الايراني يقوم على اتفاق جوهري واحد: “ساعدونا في لجم “ثورة الحجاب” في طهران، نساعدكم في لجم “دويلة الحوثيين” في اليمن، معتبرين أن ما يمكن أن يكون أوسع من ذلك في المدى القريب على الأقل مجرد تكهنات في مكان أو تمنيات في مكان آخر.

طلائع الاشارات البعيدة من ملف اليمن و”ثورة الحجاب”، جاءت من وزير الخارجية السعودية فيصل بن فرحان الذي اعتبر الملف اللبناني شأناً لبنانياً – لبنانياً لا علاقة له بما جرى في بكين، وثانيها جاء من البيت الأبيض الذي رحب على مضض محاولاً جر الاتفاق نحو المستنقع اليمني دون سواه من الملفات الساخنة في المنطقة والعالم، وثالثها جاء من اسرائيل التي لا ترى في “مصالحة بكين” ما يمكن أن يقفل المصانع النووية والصاروخية البالستية في طهران، أو ما يوقف هجماتها المتلاحقة على ترسانات ايران وحلفائها في سوريا.

والمقصود من كل ذلك سبحة تساؤلات بديهية منها:

هل يمكن أن تسهم المملكة العربية السعودية البعيدة من “سرب التطبيع” مع الدولة العبرية، في الحؤول دون حرب بين تل أبيب وطهران على خلفية البرنامج النووي الايراني؟ وهل يمكن أن تنجح في اقناع ايران بالتخلي عن هذا البرنامج الذي يهدد أمن السعودية نفسها ودول الخليج الأخرى؟ وهل يمكن أن تنجح أيضاً في اقناع المجتمع الدولي بفك العقوبات عن الجمهورية الاسلامية الغارقة حتى رأسها في تحديات وتحديات متبادلة مع العالم كله تقريباً؟

أكثر من ذلك، ماذا يمكن أن يكون موقف الرياض لاحقاً اذا تمنعت ايران عن لجم ميليشياتها في المنطقة؟ وماذا يمكن أن تقدم لتنفيس الاحتقان الأميركي – الايراني والايراني – الأوروبي، أو لسحب ايران من مفاعيل الحرب الأوكرانية التي تقترب من مواجهة شبه حتمية بين روسيا وحلف الأطلسي؟

وأخيراً هل تقصدت الرياض تعويم الدور الصيني في الشرق الأوسط على حساب الولايات المتحدة ونفوذها في الخليج والشرق الأوسط؟ وهل يمكن أن تمر هذه الخطوة من دون ألغام أميركية قد تزرع هنا وهناك؟

وأكثر من ذلك أيضاً، ماذا يمكن أن تقدم ايران لإرضاء العرب والغرب معاً يتجاوز التخلي عن برنامجها النووي الذي يقترب من انتاج قنبلة نووية من دون الحصول على ما يمكن أن يكون ثمناً اقليمياً يعتد به؟ وهل يمكن أن تتخلى عن “الحوثيين” في اليمن من دون “تنازلات” ما من الرياض وبيئتها الخليجية وتحديداً في البحرين؟ وهل يمكن أن تتخلى عن “الحشد الشعبي” في العراق من دون موطئ قدم استراتيجي يكمل الحلقة الهلالية، وحركة “حماس” في غزة من دون تسوية تبعد شبح القلاقل بين طهران وتل أبيب، و”حزب الله” في لبنان وسوريا، من دون تفاهمات قد تبقي بشار الأسد في موقعه أو قد تبعد عنها كأس المواجهة شبه الحتمية مع الأميركيين والاسرائيليين، أو لا يحررها بالتالي من العقوبات الدولية والحصار الذي تعانيه مع حلفائها من اليمن حتى البحر المتوسط؟

يذهب مصدر ديبلوماسي غربي بعيداً الى حد القول ان الأمر الذي سرّع “مصالحة بكين”، اقتناع ايران بأن مغرياتها لم تعد تنطلي على أحد، وأن المواجهة مع كل من اسرائيل والولايات المتحدة آتية لا محالة، وأن الأمر بات يحتاج الى واحد من أمرين: اما الذهاب الى حرب غير مضمونة واما اللجوء الى حرق بعض من أوراقها، واقتناع السعودية بأن الوقت حان لاخماد الحريق المتواصل على حدودها مع اليمن من جهة، والانفتاح على دول قادرة على تطويع طهران مثل الصين وروسيا التي زارها بن فرحان قبل أيام محذراً من تزويد ايران أسلحة متطورة من طراز “سوخوي-35” من جهة أخرى.

ويضيف: ان هذا التقارب الذي سبق مناورات “الرمال الحمراء” في الصحراء السعودية بين السعودية والولايات المتحدة هذا الشهر، أظهر نوعاً من “توازن الرعب” بين مسيرات ايران والقدرات الجوية المضادة في ترسانات الرياض، وأن الغطاء الأميركي الذي نالته اسرائيل المتحفزة لقصف المفاعلات النووية الايرانية بأي طريقة وأي ثمن، دفع طهران الى وضع كل أوراقها على الطاولة بدءاً باستمالة السعودية مروراً بفتح ملف المعتقلين الأميركيين في طهران وصولاً الى ملف الميليشيات الموالية لها في المنطقة.

حتى حسن نصر الله نفسه فوجئ بما جرى في العاصمة الصينية وبدا في تعليقه على الأمر وكأنه اَخر من يعلم، حتى أنه لم يتردد في ابداء الكثير من القلق حيال التقارب السعودي – الايراني والقليل من الاطمئنان، وذلك عندما حاول أن يطمئن نفسه أولاً وحلفاء ايران ثانياً الى أن ما جرى لن يبدل في سياسات ايران ولن يأتي على حساب أي منهم.

ارتباك نصر الله تزامن أيضاً مع الجو المحلي والاقليمي والدولي الذي يشبه الى حد كبير ما سبق في العام ١٩٨٢ القرار المشترك بازالة الدولة التي كان يبنيها ياسر عرفات في لبنان، والجو نفسه الذي سبق قرار التخلص من حكم “طالبان” وتنظيم “القاعدة” في أفغانستان، والجو نفسه الذي يضع “حزب الله” بين واحد من خيارين: اما الذوبان في المعادلة السياسية اللبنانية بعيداً من المحاور الاقليمية الساخنة، واما الذوبان في مغامرات ايران في المنطقة والعالم بكل ما في ذلك من أثمان وتداعيات.

واذا لم يكن ذلك واقع الحال، فلا بد من بعض الأسئلة ومنها أولاً، لماذا قررت “منظمة حقوق الانسان” التابعة للأمم المتحدة الدخول على خط التحقيقات في تفجير المرفأ، وهي تحقيقات يحاول “حزب الله” اجهاضها بأي ثمن؟ وثانياً، لماذا فتحت فرنسا ملف التفجير الذي طاول مقر مظلييها في بيروت في العام ١٩٨٣، وهو تفجير لا يبدو “حزب الله” بريئاً منه لا من قريب ولا من بعيد؟ وثالثاً، لماذا تحرك رئيس الأركان ووزير الدفاع الأميركيبن نحو الشرق الأوسط في زيارتين مفاجئتين ركزتا على سبل التخلص من البرنامج النووي الايراني ومواجهة التحديات الايرانية وممارسات حلفائها في المنطقة؟

ويكشف مصدر قريب من الضاحية الجنوبية أن “حزب الله” الذي كان يتوقع اندلاع الحرب لحظة التأكد من أن ايران باتت قريبة من انتاج قنبلة نووية، بعدما وصلت نسبة تخصيب اليورانيوم الى ٨٥ في المئة، لم يكن يتوقع أن تأتيه الصدمة من طهران نفسها، وأن يجد نفسه تماماً كما بعد حرب تموز في موقع “الذي لا يعلم” وهي التي كادت توليه أمور الاستراتيجية الايرانية على مدى الهلال المنشود.

ويضيف: ان ما جرى في بكين، كشف أن نصر الله ليس لدى الايرانيين بالحجم الذي يحاول تسويقه بين الحين والاَخر، وليس من الأوراق غير القابلة للاحتراق عندما تحين مواعيد التخلص من الحمولات الزائدة في لحظات الغرق.

ويشير الى أن لقاء بكين، سواء علناً أو ضمناً، حرق ورقتي سليمان فرنجية وميشال معوض معاً وأرغم المتمسكين بهما على البحث عن حيثية أخرى تركن إليها السعودية، فلا تكون بندقية في يد طهران ولا لغماً تدوس عليه الرياض سواء عبر التحريض أو عبر حبات الكبتاغون.

وفي عودة الى المرحبين سواء في الشرق أو في الغرب، لا بد من التذكير بأن التطبيع السعودي – الايراني لم يكتمل والتوتر بينهما لم يخمد، وجلّ ما في الأمر أن الفريقين يحتاجان الى هدنة ما يلتقطان فيها الأنفاس في مرحلة دولية وإقليمية حرجة تتأجج على الجبهة الأوكرانية، والجبهة الايرانية – الاسرائيلية.

ويقول مصدر دبلوماسي في هذا الشأن: ان ما جرى حوّل الصين في الشكل الى لاعب ديبلوماسي دولي في مواجهة الولايات المتحدة، وحوّل القرارات في المضمون الى ما يشبه الكثير من القرارات البائدة السابقة التي تعني الطرفين ومنها في لبنان مثلاً القرار الرقم ١٥٥٩.

ويختم المصدر نفسه قائلاً: ان إيران هي الآن في فترة مراقبة من الجميع ومعها “حزب الله” وكل حلفاء الجمهورية الاسلامية من دون استثناء، وأن جلّ ما حدث في بكين، على أهميته، يمكن اختصاره في عبارة واحدة: “لقد طلبنا ما طلبناه والى اللقاء بعد شهرين”.

شارك المقال