شعلة 14 آذار… أوقدتها دماء الحريري وأطفأتها المصالح السياسية! (2/1)

زياد سامي عيتاني

“ثورة الأرز” أو “إنتفاضة الإستقلال” هي تلك الثورة الشعبية المليونية العارمة السلمية المدنية، التي قامت في 14 شباط 2005، بعد شهر من جريمة العصر المتمثّلة بالاغتيال المزلزل الذي أودى بحياة الرئيس الشهيد رفيق الحريري، ووضع لبنان ومستقبله أمام منعطف خطير.

في 14 آذار من العام 2005، كان اللبنانيون غاضبين ساخطين ثائرين متمردين، بعدما قضت شاحنة الـ”ميتسوبيشي” المحمّلة بألفي كيلوغرام من المتفجرات على آمالهم بلبنان جديد، خصوصاً أنّهم خبروا في سنوات قليلة معنى البناء والازدهار والاستقرار الأمني والاقتصادي، وراهنوا عليه في تغيير حياتهم.

أحلام واعدة بمدنيّتهم الحضارية، حملها اللبنانيون، مسلمون ومسيحيون معهم إلى ساحة “الحرية”، متشحين بالوشاح الأحمر والأبيض (رمز ثورتهم)، ملوحين عالياً براية الوطن، هاتفين بحناجرهم الوفية: “حرية، سيادة، إستقلال”، و”الحقيقة والحرية والوحدة الوطنية”، كاسرين حاجز الخوف، الذي لطالما تحكم بهم طيلة فترة الوصاية السورية. فكانت بثوابتها ومبادئها، التي قامت عليها أروع ثورة وطنية جامعة في تاريخ لبنان، خصوصاً أنها وبمؤازرة ضغط دولي وعربي من أخرج الجيش السوري ومخابراته من لبنان، وأنهى زمن الوصاية الذي تحكّم لعقود بكل مفاصل الدولة اللبنانية وسياساتها.

بعد هذه التظاهرة الوطنية غير المسبوقة، كان لا بدّ من البناء عليها، لتأسيس وإنشاء إطار سياسي (جبهوي) يؤطّر ثوابتها ويتبناها، من خلال برنامج سياسي نضالي، لتحقيق أهدافها، فأنشأت قوى المعارضة تحالف “قوى 14 آذار” الذي تألف من أحزاب وتيارات وشخصيات ونخب سياسية وقوى من المجتمع المدني “الشبابي”، وقد أخذ التحالف إسمه من التاريخ الذي أقيمت فيه التظاهرة التي قُدّرت حشودها بما زاد عن المليون ونصف المليون لبناني من كلّ الأطياف والمناطق.

جعل تحالف “قوى 14 آذار” من أهدافه الرئيسة إنشاء لجنة تحقيق دولية في إغتيال رئيس الوزراء رفيق الحريري، وإنهاء الوجود العسكري السوري في لبنان الذي إستمر نحو 29 عاماً.

كما دعا إلى توحيد اللبنانيين وإقالة رؤساء الأجهزة الأمنية في البلاد، وإقامة إنتخابات برلمانية حرة بعيداً عن التدخل السوري. وطالب بقيام دولة لبنانية تعتمد على المؤسسات والقانون، وإنجاح نهضة الاقتصاد الوطني والابتعاد عن لعبة المحاور الاقليمية.

وقد نجح التحالف في تحقيق خروج الجيش السوري من لبنان، وتأمين دعم المجتمع الدولي لاستقلاله (بقي ملتبساً!)، وتعبيد الطريق أمام قيام المحكمة الدولية إحقاقاً للعدالة، وتصحيح العلاقات الديبلوماسية بين لبنان وسوريا لأول مرة منذ الاستقلال.

كما حصل التحالف على نسبة كبيرة من مقاعد البرلمان في الانتخابات التي جرت عام 2005، علماً أنه خاض تلك الانتخابات بالتحالف مع “حزب الله” في بعض المناطق، تحت شعار “منع الاحتقان المذهبي”! كذلك، حصل التحالف على الغالبية في الانتخابات النيابية عام 2009، من دون أن تمكنه تلك الأكثرية من أن يتولى السلطة، وفقاً للنظام الديموقراطي البرلماني، بسبب ما واجهه من معارضة شديدة من قوى 8 آذار التي يقودها “حزب الله”!

إلا أن هذه الثورة، كأي ظاهرة سياسية نبيلة في لبنان، ما لبثت أن أفرغت من أساسياتها، واستسلم فرقاؤها، بعضهم يأساً، وبعضهم طمعاً في السلطة، وآخرون ضعفاً وإنهزاماً أمام الفريق الآخر.

لذلك، لا يمكن القول إن مسيرة “14 آذار” النضالية، كانت في حالة تصاعدية، بل على العكس من ذلك، فقد شهدت تراجعاً لأسباب موضوعية وذاتية، منها عمليات الاغتيال المتلاحقة، والانقلاب على الشرعية، بالاضافة الى دروس “التأديب” التي قام بها “حزب الله” من أجل تعزيز هيمنته عبر إستخدام السلاح، إلى جرّ اللبنانيين إلى الحرب السورية، مما كان يهدّد السلم الأهلي والوحدة الوطنية في كلّ لحظة، خصوصاً مع انتهاجه بحكم “فائض القوة المسلحة”، السياسات الاقصائية والتعطيلية، لفرض إملاءاته، مستفيداً من تشتت معارضيه وتفككهم، وغياب الدعم الخارجي الجدي للقرار السيادي اللبناني المستقل.

لكن ذلك كلّه، لا يعفي “قوى 14 آذار” من تحمّلها مسؤولية كبيرة في ما آلت إليه تباعاً من إنقسام وتشرذم وتباين في ما بينها، حتى وصل الأمر ببعض مكوناتها الى الانقلاب التّام على ثوابت “ثورة الأرز”، مما تسبّب بإنكسار وراء إنكسار، أدى إلى نعي هذا الفريق من الفريق نفسه، على الرغم من كل محاولات الاستنهاض التي بقيت عاجزة عن ذلك، حتى باتت دماء شهداء “إنتفاضة الاستقلال”، الذين كانوا وقود شعلتها، ذكريات خفتت مع الأيام، ونسِيها الناس، مع ما واجهوا من أزمات مفتوحة بلغت حدّ الإنهيار الذي نعيش مآسيه الكارثية المدمرة!

(يتبع)

شارك المقال