تتنهّد أنجاد ابنة المفقود المعاون أول في قوى الأمن الداخلي عبد الهادي المعلم بغصّة. “ودّعتُ والدي الذي كان ذاهباً إلى خدمة وطنه في ثكنة الحلو في تشرين الثاني من العام 1984 على أساس أنه عائد بعد يومين، فباتت ثمانية وثلاثين عاماً وخمسة أشهر نعدّها بالساعات والثواني”. هكذا بدأت أنجاد المعلم أمينة سر لجنة أهالي المخطوفين والمفقودين قسراً حديثها إلى موقع “لبنان الكبير” عشية الذكرى الثامنة والأربعين لبداية الحرب الأهلية اللبنانية.
وقالت: “بعد فترة علمنا أن والدي اختطفته ميليشيا لبنانية ثم سلمته إلى السوريين في السجون السورية. كان عمري خمس سنوات ونصف السنة وعمر أختي الصغرى سنة ونصف السنة، لا تعرف والدها إلا بالصورة. تولّى الكبار القضية فسألوا وفتشوا، لكن أبي لم يعد، فتمّت إضافة اسمه مع أسماء المخطوفين إلى لجنة أهالي المخطوفين التي أنشئت عام 1982”.
خطف ابن الدولة ولكن “ليش عنا دولة بالأول لتسأل على أولادها”؟ من كانوا في الدولة حينها هم رؤساء الأحزاب الذين خلعوا الثوب الميليشيوي وارتدوا الثوب السياسي وحكموا البلاد والعباد منتقلين من حكم ميليشيوي إلى حكم أصعب.
نضالٌ مستمر
تستذكر أنجاد من تصفه بـ “الهرم الكبير” الناشط في مجال حقوق الانسان غازي عاد الذي أسس جمعية “سوليد” وترأسها، وهي جمعية دعم المعتقلين والمنفيين اللبنانيين، ونصب خيمة أهالي المعتقلين في السجون السورية في حديقة جبران خليل جبران قرب “الاسكوا”. “إنها خيمة الحق وخيمة العدالة والحرية للمعتقلين ولكل مفقود حتى يُعرَف مصيره. الخيمة الصامدة في وجه كل التحديات والعواصف الطبيعية والسياسية. سيصبح عمرها في 11 نيسان 2023 ثمانية عشر عاماً” بحسب أنجاد.
بدأت أنجاد تنزل إلى الخيمة مع أهالي المفقودين الذين كانت تراهم سابقاً على شاشة التلفزة، ولم يكن باستطاعة عائلة المعلم أن تعتصم حينها لأن والدها ابن دولة والسوريين كانوا متمركزين في المنطقة نفسها في البقاع، ما منعهم من التحرك حتى نيسان 2005 “عندما تحررنا من القيد السوري، فبدأنا ننزل إلى بيروت رغم ذعرنا وخوفنا، ونرى أهالي المعتقلين في السجون السورية المؤكد وجودهم هناك، بالاضافة إلى أهالي المخطوفين والمفقودين قسراً ومن هم في المقابر الجماعية أو في سوريا أو اسرائيل”. كلهم وجعهم واحد. فاللجنة عابرة للطوائف.
قمعٌ وعنف
أسوة بجميع الأهالي حاملي صور مفقوديهم، إستمر نضال أنجاد من خلال التظاهرات وحرق الدواليب والاعتصامات أمام مجلس النواب والسراي “متسلّحة بصورة والدي، السلاح الأقوى، سلاح الحق والعدالة الذي يخيفهم ويرعبهم بل ويستفزّهم وهو ما أعتبره أكبر قنبلة تهزّهم، نتحمل القهر والعذاب والضرب من شرطة المجلس لمنعنا من إيصال صوتنا. كنا نقول للشرطة: أسيادكم هم الميليشيا التي اختطفت مفقودينا.”
حاول عناصر من شرطة المجلس مرة سحب صورة والد أنجاد من يدها وتحطيم إطار الصورة فواجهتهم بالقول: “ما تمد إيدك عالصورة مد إيدك عليي بس مش عالصورة هيدا زميل متلك متلو”. فما كان من الشرطة إلا أن ضربتها بالبارودة ودخلت الحواجز الحديدية في معدتها فأنقذها الصليب الأحمر.
“إنهم لا يشعرون أن الخطف هو أكثر مظاهر العنف وجعاً”، تنظر إلى المعتصمين فترى “أم ناطرة إبنها أو بنت تنتظر والدها أو أخ وأخت يحملان غصة كبيرة في قلبيهما والكل لا يعرفون شيئاً عن ذويهم سوى أنهم ذهبوا ولم يعودوا فيما أصحاب الميليشيات مطمئنون على أولادهم المؤمنين في بلادهم أو في سفرهم ولا يكترثون بالأهالي ولا الأمهات الذين لا يزالون يطالبون بمعرفة مصير أولادهم وقلوبهم تحترق أو يموتون بحرقة وحسرة ذويهم.”
وشهد شاهدٌ من أهله
عام 2000 تحررت دفعة من اللبنانيين الذين كانوا في السجون السورية وخرج معتقلون وأعطوا أسماء أشخاص كانوا معهم وتفاصيل مهمة عنهم ليتأكد الأهل أن الأشخاص لا يزالون موجودين بالفعل.
وأكد عضو الهيئة الوطنية للمفقودين والمخفيين قسراً المحامي فواز زكريا، وهو أحد المعتقلين السابقين في السجون السورية، في لقاء مع أهالي المفقودين منذ شهرين في “نادي الصحافة”، وجود لبنانيين في السجون السورية لا يزالون أحياء .
وقالت أنجاد: “طيبين بدنا ياهن أو رفات. يجب أن يعودوا بكرامة إلى بلدهم ووطنهم.”
هيئةٌ تنتظر الدعم
تشكلت الهيئة الوطنية المستقلة بموجب القانون 105/2018 الذي انتزعه الأهالي بعد صبر ودموع ومظاهرات وقمع وضرب ببواريد العسكر. كانوا يقطعون الطرق في اعتصامات “الاسكوا” ويحتجون ويزورون الوزراء والنواب حتى أقر مجلس النواب قانون المخطوفين والمخفيين قسراً في لبنان. ويضع الأهالي كل ثقتهم وأملهم في هذه الهيئة التي تشكلت من خيرة القضاة والمحامين والمجتمع المدني.
وقال نائب رئيس الهيئة الوطنية للمفقودين والمخفيين قسراً ورئيس الهيئة بالإنابة د. زياد عاشور لموقع “لبنان الكبير”: “على الرغم من تشكيل الهيئة منذ أكثر من سنتين ونصف السنة، ولكن لم تستجمع مقومات العمل لديها. فلا مقر للهيئة ولا موازنة ولا جهاز عاملاً من موظفين وإداريين وحتى فنيين. وبالتالي لا عمل ميدانياً في موضوع الكشف عن مصير المفقودين، لا في موضوع استقبال الأشخاص من أهالي الضحايا والعمل معهم ولا على مستوى العمل على البيانات بصورة مباشرة ولا على مستوى التواصل. وما حصل من تواصل الهيئة مع الجهات المعنية هو تواصل عام يمكن أن يشكل مدخلاً لتواصل أكثر عمقاً وتخصصاً ويكون مباشراً”.
ولفت إلى أنه “على الرغم من الصعوبات التي تواجهها الهيئة، فهي منذ اليوم الأول لتشكيلها انكبّت على وضع الأنظمة، وهو شيء أساس ومفصلي في دورها. فقد وضعت الأنظمة الداخلية والمالية والادارية ومدونة السلوك وعمل شبكة علاقات مع الجهات الداعمة للقضية على المستويين المحلي والدولي، كما طلب الدعم من الجهات كافة على المستوى السياسي والفني وحتى المادي ووضعت خطة اسستراتيجية لعمل الهيئة للمرحلة المقبلة مدتها سنتان أو ثلاثة، تضمنت مجموعة من العناوين الرئيسة وبصورة أساسية موضوع التواصل من خلال نشاطات تثقيفية توعوية والتعريف بالقانون 105/ 2018 ودور الهيئة”.
كما أشار عاشور إلى أهمية وضرورة العمل في الفترة المقبلة على التواصل مع الجهات الرسمية وغير الرسمية للتقدم في مجال قضية المفقودين وكذلك في موضوع البيانات الذي يحتاج إلى مقومات وخبرات ودعم مادي. فصحيح أن البيانات موجودة عند الكثير من الجهات الرسمية وغير الرسمية المحلية والدولية ولكن الهيئة في الوضع الحالي غير قادرة على استلام هذه البيانات وحفظها وتحليلها والعمل بها، لذلك العمل الميداني للهيئة لا يزال غير ظاهر لأن ليس هناك تماس مباشر مع موضوع المفقودين والمقابر الجماعية والبيانات والتواصل مع الجهات المعنية لا يزال عامّاً. وأمل أن يؤمن في المستقبل الدعم والمقدّرات للهيئة كي تستطيع أن تخوض في هذا العمل.
لا نشاط للهيئة هذا العام
في ذكرى الحرب الأهلية للعام 2023، قررت الهيئة أن لا تقوم بأي نشاط ولكنها منفتحة على المشاركة في أي نشاط ينظمه المجتمع المدني أو أي جهة من الجهات التي تعمل على هذه القضية لتبلور معها شراكة وتعرض خطابها في موضوع قضية المفقودين، وهو خطاب تبلور خلال المرحلة الماضية ويركز على البعد الانساني فقط لقضية المفقودين والمخفيين قسراً. وأعرب عاشور عن اعتقاده أن الهيئة نجحت في بلورة خطاب تستطيع من خلاله أن تحوز ثقة الفرقاء المعنيين كافة بقضية المفقودين سواء الأهالي أو الأحزاب السياسية أو مكونات المجتمع اللبناني الطائفي وغير الطائفي وحتى الأجهزة الرسمية الأمنية والقضائية وغيرها.
اللجنة تناضل والقانون موجود والهيئة تنتظر الدعم للقيام بدورها، فيما لن يكلّ أو يملّ حاملو مشعل قضية المعتقلين اللبنانيين في السجون السورية، وسيبقى أهالي المخطوفين والمفقودين والمخفيين قسراً يداً واحدة يناضلون مع بعضهم البعض لآخر نفس، ويطالبون بتحقيق العدالة وحقهم بمعرفة مصير مفقوديهم الذين يقدّر عددهم بحسب الأرقام الصادرة عن السلطات الرسمية قبل صدور القانون وتشكيل الهيئة بـ 17000 مفقود، وهذا الرقم معتمد بصورة رسمية كي تستطيع الهيئة القيام بدورها لتحديد الرقم الحقيقي للمفقودين إن كانوا لا يزالون أحياء.
يبقى أن تضع الدولة اللبنانية هذا الموضوع الانساني ضمن أولوياتها لأن القضية قضية وطن تحترق فيه قلوب الأمهات.