فكر محمد حسن الأمين: الطائفية غرائزية والوطنية انتماء عقلي

د. سيلفا بلوط

تحتاج الحياة السياسية في لبنان إلى الاعتدال، ليس كضرورة لتدعيم العيش الواحد فحسب، وإنما أيضاً لانقاذ الوطن الذي أنهكته سنوات طويلة من حرب أهلية غرست في روؤس مواطنيه تعصّباً طائفياً ومذهبياً. بمعنى آخر، أجازت هذه الحرب لكل طائفة تحويل أفرادها إلى “قطعان” بشرية، إن جاز التعبير، وخوّلتها التحكّم بها بما يتناسب مع مصالحها. ولم يكن ضرب مؤسسات الدولة بعد إضعافها إلا سبيلاً للقبض على السلطة من أرباب الطوائف.

لم يكن الاعتدال الذي نادى به العلامة السيد محمد حسن الأمين إلا محدّداً أساسياً في بناء دولة تتمتّع بديموقراطية تمدّها بالقدرة على التحرّر من أي ولاية خارجة عن إرادتها في تقرير مصيرها.

ومن هذا المنطلق، اعتبر العلامة أن “الأمة هي من تمتلك الولاية على نفسها”. بمعنى آخر، فانه نادى بسيادتها المطلقة في اتخاذ قراراتها المصيرية.

ويتبدّى الاعتدال في فكر العلامة، على نحو خاص، عندما أناط الانتماء الوطني للفرد بعقله ووعيه، وليس بغريزته التي تدفعه إلى التمسّك بطائفته. والانتماء الطائفي، بالنسبة إليه، “هو، إلى حدّ كبير، انتماء غرائزيّ” بينما الانتماء الوطني هو “انتماء عقلي”. ومن هذا المنطلق، أظهرت دعوته الملحّة الى احياء دور العقل في بناء الدولة مدى الانعكاس السلبيّ لغيابه على مستوى الحياة السياسية حيث أضحت الهوية المذهبية بديلاً عن الوطنية.

وإذا ما قرأنا بين سطور ما كتبه الأمين لوجدنا أن الطائفية جعلت من الفرد رقماً في “عدّاد” التخلّف وألقت به في مستنقع من المحرّمات لتضاعف بذلك قبضتها عليه. وأشار إلى أن “الفرد في مجتعماتنا ما زال مجرّد رقم، وما زال الخروج على عادات المجتمع وتقاليده ومسلّماته أمراً يعرّض الفرد لأشكال لا حدود لها من العقوبات المعنوية… وهذا يعتبر أقصى درجات العبودية”. وبذلك، أوضح العلامة العلاقة السببية بين التعصّب الطائفي وانهيار القيم المدنية التي تعدّ أساساً لنظام سياسي مدني قادر على حماية الدولة.

شكّل فكر العلامة الأمين “انتفاضة” ضدّ الطائفية التي لم تنهك عقول المواطنين فحسب، وإنما أيضاً حياتهم على المستويات كافة، الاجتماعي والاقتصادي والتربويّ والسياسيّ… باعتبارها راعت التقسيم بين اللبنانيين. ويتخطّى المتطرّف، بالنسبة إليه، سواء كان سياسياً أو دينيّاً، إذا ما وجد في الحكم، كلّ الاعتبارات الأخلاقية في سلوكياته المستبدّة، ويسعى إلى استغلال الأفراد بما يتناسب مع مصالحه. وفي هذا الصدد قال العلامة: “المتطرّفون لا يخافون أحداً، إنما يتاجرون”.

لقد عملت طائفية النظام السياسي في لبنان على تحويل الدين من راعٍ للعيش المشترك إلى أداة فاعلة للفتنة، وجذّرت أكثر فأكثر التعصّب المذهبي لتدخل في تفاصيل حياة اللبنانيين بهدف إلهائهم عن قضايا أساسية وطنية ومعيشية هم أحوج إليها من تلك المتعلّقة بمذاهبهم.

ويرى العلامة أن الشرخ القائم بين اللبنانيين قد ازداد بفضل ما أرسته طائفية النظام السياسي من تأليه للزعيم مروراً بإضعاف المواطنية وصولاً إلى تقويض ديموقراطية الدولة ومدنيّتها. واعتبر في آخر ما قاله قبل وفاته في نيسان عام ٢٠٢١ “نحن (لبنانيون) لسنا وطناً واحداً وموحّداً، نحن مجموعة من الطوائف والأديان والمذاهب ننادي بالعيش المشترك ولكننا لا نمارسه. في لبنان، إن الفرد يولد مقيّداً ومحاصراً بقيد طائفته أو مذهبه، وهو بالتالي ليس عضواً في الاجتماع السياسي الكبير، إنه عضو في المذهب الذي ينتمي إليه”. وبناءً عليه، بقي العلامة، حتى اليوم الأخير من حياته، “مقاوماً” للهوية المذهبية ورافضاً لمبدأ الدولة الدينية باعتبار أن الدين هو شأن إلهي والسياسة شأن بشريّ.

خلاصة، قارب العلامة السيد محمد حسن الأمين الحياة السياسية في لبنان من منظور فكره، واعتبر الطائفية “عدواً” شرساً للعقل وأن اقحامها في حياة المواطنين ما هي إلا عقبة ضدّ “إنسانيتهم” وخلاص وطنهم.

شارك المقال