“فتح لاند” مجدداً في لبنان

محمد علي فرحات

الأراضي الواقعة جنوب مدينة صور اقتطعتها القوى الحاكمة في جنوب لبنان وسلمتها لقوة فلسطينية مجهولة تنصلت منها منظمة “حماس”، وأقدم “الفلسطينيون المجهولون” على اطلاق صواريخ نحو فلسطين المحتلة خلف الحدود اللبنانية. هذه الواقعة تذكر من بقيت لهم ذاكرة بـ”فتح لاند” في منطقة العرقوب الجنوبية هي أيضاً، والتي بدأت منها سيطرة المنظمات الفلسطينية المسلحة على معظم الأراضي اللبنانية، وبدأ ما سمي لاحقاً بـ”الحرب الأهلية اللبنانية” التي انتهت باتفاق الطائف الذي لم ينفذ بفضل السيطرة السورية على لبنان، وبفضل زعماء الميليشيات الذين انتقلوا من المتاريس الى مقاعد الحكومة ومجلس النواب، ولا يزالون متشبثين بحكم شعب أتقنوا التفريق بين جماعاته ودفعوا أجياله الجديدة الى نسيان الوقائع اللبنانية السابقة بايجابياتها وسلبياتها، وتحددت نظرتهم بأن لبنان يبدأ بـ”فرسان” الحرب الأهلية ويتهدده الزوال إذا زالت سلطتهم.

باسم التضامن مع القدس جرى تسليم أراضٍ لبنانية لمسلحين فلسطينيين “مجهولين”. ولم يكتف الثنائي المسيطر على الجنوب بالتأييد والدعم انما شارك في القتال بصورة مواربة لكنها واضحة للقاصي والداني، وبهذا يكرّس الثنائي مبدأ “فتح لاند” على الرغم من معاناة اللبنانيين من “الحرب الأهلية” وآلام أهل الجنوب تحت احتلالين أول وثانٍ لم ينتهيا الاَّ بتضحيات قام بها كثيرون، ومن بينهم، بل في طليعتهم، أولئك الذين يجددون اليوم مأساة الجنوب بل مأساة لبنان. كأَّن تلك الأرض التي وهبت للمسلحين الفلسطينيين “المجهولين” ليست أرضاً لبنانية استعادها لبنانيون بالتضحيات لتكون جزءاً من وطنهم، لا سلعة تباع على قارعة الدول المنافسة في هذا الشرق الغارق في الفوضى.

مع ذلك تتصاعد أصوات الادانة لمن يطلبون حكماً لامركزياً للبنان ولا يريدون استعادة سيرة تقديم وطنهم ساحة للآخرين، أخوة كانوا أو غرباء أو أعداء. ولن يستطيع الثنائي المسيطر على الجنوب تبرير فعلته بأنه يشارك مواربة في معركة القدس، فهذه الطريقة في المشاركة تقفز فوق حقيقة الدولة اللبنانية وأرضها ومؤسساتها السياسية. انها عملية تهريب من خلف ظهر الدولة بحكومتها ونوابها وهيئاتها السياسية والاجتماعية والاقتصادية. ولم تقدم دول مصر والأردن وحتى سوريا جزءاً من أرضها كساحة “فلسطينية” لخوض معركة القدس. هذه الدول المجاورة لاسرائيل ناصرت وتناصر قضية القدس باعتبارها دولاً مسؤولة لا باعتبارها أرضاً مستباحة. وليس من احراج في ادانة فعلة الثنائي ولا مجال للابتزاز بأن من يعترض على فعلته فهو ينضم الى الطرف المعادي. انه ابتزاز مفضوح، وهو يدفع قطاعات من اللبنانيين الى اليأس من دولتهم ومؤسساتها الدستورية فيلجأون الى الهجرة اذا أتيحت لهم، والى الكفر بالشراكة الوطنية التي يتصرف فيها الشريك على هواه، أي على هوى حلفائه الكبار في هذا الشرق التعيس.

وتبدو هذه المشاركة في النضال الفلسطيني، على أحقيتها نظرياً، شكلاً من أشكال التخفف من الواجب الوطني اللبناني، فكيف لمن يقدم أرضاً للقصف على الأعداء أن يهمل الانهيار اللبناني سياسياً واجتماعياً واقتصادياً، فيسكت عن سرقة أموال الدولة وسرقة أموال الناس والسعي الى الفتنة بينهم يومياً، ليحفظ امتيازاته ومناصبه التي حصل عليها بقوة الأمر الواقع؟ كيف لراعي فتنة أن يقدم نفسه محرراً لوطن ويقبل بانهياره يومياً؟ وكيف نواجه دعاة اللامركزية، بل دعاة التقسيم، حين نعمد الى مصادرة قرار الدولة، أي القرار الوطني، في المناطق التي نسيطر عليها ونمنع الآخرين من الحضور فيها سياسياً وثقافياً واجتماعياً؟ وماذا يكون جواب ابن النبطية حين يسأله ابن البترون: لماذا تنفصل عني وتحكم منطقتك وتحرم أن انفصل عنك وأحكم منطقتي؟

لا أعرف من القائل: “لبنان أكبر من أن يبتلع وأصغر من أن يقسّم”، لكن هذا القول يبدو بعيداً من التداول، وذلك حين يكمل زعماء الميليشيات سيرة القضاء على لبنان التي بدأوها في العام 1975 بمؤازرة قوى اقليمية وعالمية. هؤلاء يصغون الى أوامر الخارج ويصمّون آذانهم عن أصوات الداخل، بل انهم يكتمونها بالسيطرة الأمنية وبالجوع أيضاً.

شارك المقال