جعجع في الافطار… خبزي ليس مسموماً!

أنطوني جعجع

كان لافتاً الغياب الاسلامي شبه الكامل بمذاهبه السنية والشيعية وحتى الدرزية عن حفل الافطار الذي أقامه سمير جعجع في معراب، وكذلك الغياب الديبلوماسي العربي الذي اكتمل فصولاً مع وجود السفير السعودي وليد بخاري خارح البلاد.

وكان لافتاً أيضاً، العزلة الاسلامية الأخرى التي يعانيها جبران باسبل بعد خروج “سطوته” من قصر بعبدا، وبعد تفكك تحالفه مع “حزب الله” وتفاقم مناحراته مع السنة والدروز والركن الشيعي الآخر، أي نبيه بري.

والسؤال المطروح في العلن وفي الكواليس، هل هي مصادفة أو موقف محدود بالزمان والمكان فرضته ظروف معينة، أم هي أخطاء ارتكبتها القيادات المسيحية على الطريق، أم هو “استخفاف” اسلامي بمن تبقى من الحيثيات المسيحية أم مآخذ تراكمت الواحدة بعد الأخرى ووصلت الى حدود الانفجار في مكان والقطيعة في مكان آخر؟

وأكثر من ذلك، هل وصل المسلمون اللبنانيون في معظمهم الى مرحلة يؤمنون فيها بأنهم قادرون على الحكم من دون المسيحيين، أو هل وصل المسيحيون في معظمهم الى مرحلة يؤمنون فيها بأن لبنان سيكون أفضل حالاً من دون المسلمين، وبالتالي بات التقسيم مادة تداول واسعة وعلنية يلتقطها الكثير من المغالين في لبنان والكثير من المحللين في بعض عواصم القرار؟

الواقع أن الشراكة المسيحية – الاسلامية ليست في خير، وليس في الأفق ما يوحي بأن هذه الشراكة قادرة على الترسخ، في وقت يتغلب التطرف على الاعتدال، والرعونة على الحكمة، والفوقية على المساواة، والسلاح على الدستور، وفائض القوة على ضآلة التوازنات، إضافة الى عقدة الأنا التي تكاد لا توفر أحداً لدى معظم القيادات المسيحية والاسلامية معاً.

والسؤال الآخر، هل هو الخلاف على هوية الرئيس العتيد وبرنامجه وميوله، وهم العالمون جيداً أنه سيأتي محروماً من صلاحياته وأكثرياته وجيشه وسلاحه؟ وهل هو اتفاق الطائف، وهم العالمون أن أحداً لا يمكن أن يزيل سطراً أو يزيد آخر من دون اجماع محلي يواكبه شبه اجماع عربي ودولي؟ وهل هو لبنان الجديد الذي يريده “حزب الله” جمهورية اسلامية ويريده السنة جمهورية عربية ويريده المسيحيون جمهورية عالمية؟

وأكثر من ذلك، هل هو الخلاف على الصراع مع اسرائيل أو على الصلح معها، في وقت بات المسيحيون لدى اسرائيل بمثابة تجربة مُرة دفعت ثمنها ولم تقبض معهم ما قبضته من محور الممانعة في ملف الترسيم البحري؟ وهل هو الخلاف مع سوريا التي فعلت بالمسلمين ما فعلته بالمسيحيين وأردت منهم بقدر ما أردت من المسيحيين، بدءاً بالمفتي حسن خالد وليس انتهاء بالرئيس رفيق الحريري؟ وهل هو الخلاف على القضية الفلسطينية التي تناساها كل العرب تقريباً ولم يبق من أنصارها الا معظم المسلمين اللبنانيين الذين قاتلوا من أجل كل قضايا العرب ولم يقاتل عنهم عربي واحد؟

أسئلة كثيرة، ومنها أيضاً، أين أخطأ سمير جعجع؟ وأين أخطأ ميشال عون وبعده جبران باسيل؟ وأين أخطأ سليمان فرنجية وسامي الجميل وقبله أمين الجميل؟ وأين أخطأ البطريرك بشارة الراعي؟ ولماذا لم يتمكن الأول في رأي المسيحيين أولاً من أن يكون “نسخة” عن بشير الجميل؟ ولم يتمكن الثاني أيضاً من أن يكون “شبيهاً” بالرئيس كميل شمعون؟ ولم يتمكن ميشال عون من أن يكون نسخة عن فؤاد شهاب؟ ولم يتمكن سامي الجميل ووالده من قبل من أن يكونا هيبة منقحة عن هيبة بيار الجميل؟ ولماذا لم يتمكن سليمان فرنجية، من أن يكون يوسف كرم آخر الملقب بوالي النصارى؟ ولماذا لم يتمكن الراعي من أن يكون أنطون عريضة آخر أو نصر الله صفير آخر؟

الواقع أن جعجع يحمل ماضياً ثقيلاً يخبو مرة في نظر المسلمين ويعلو مرات وذلك وفق الظروف والمصالح والحسابات، وأن باسيل يحمل رعونة متفلتة تخبو حيناً وتعلو حيناً آخر للسبب عينه، وأن آل الجميل يحملون تجارب في الحرب وفي الحكم وخارج الحكم لم تؤتِ لهم بكثير من المسايرات التي أحبطها أخيراً النائب علي حسن خليل، وأن فرنجية يدفع ثمن مواقف كانت أقرب الى المسلمين منه الى المسيحيين وأقرب الى أعدائهم منه الى حلفائهم، وأن الراعي يحمل عصاه من وسطها فلا يلوح بها من أجل المسيحيين ولا يلوح بها في وجه المسلمين.

لكن لا بد من التساؤل أيضاً، هل هم المسيحيون وحدهم من ارتكب كل الأخطاء والهفوات، ووحدهم من يستحق أن يكون المُدان دائماً لا المُدين أحياناً؟ ألم يرتكب المسلمون ما ارتكبه المسيحيون من مغامرات ورهانات أسهمت في تأجيج حروب واثارة توترات وتحديات؟ وهل هناك في العلن أو في الكواليس ما يلغي لهم قرار النقد الذاتي والشامل وما يجعلهم الديان الدائم أو المدان الموسمي وحسب؟

الجواب طبعاً لا، فلا المسلمون يريدون ذلك في المطلق ولا المسيحيون يستحقون ذلك في المطلق وكل ما في الأمر، أن شيئاً ما يحول دون تلاقٍ حقيقي أو مصالحة حقيقية، وأن شيئاً ما يجعل جعجع “بعبعاً” وعون “مجنوناً” وباسيل “أرعناً”، والجميل “متهوراً” وفرنجية “مرتداً”، والراعي “عاجزاً”، وأن شيئاً آخر يجعل سعد الحريري “هاوياً” ونبيه بري “بلطجياً” وحسن نصر الله “غازياً”، والمفتي “منصتاً” لا “مسموعاً”.

ما هو هذا الشيء الذي يجعل المسلم متردداً أمام مائدة افطار أقامها له مسيحي؟ وما هو هذا الشيء الذي يجعل المسيحي متردداً حيال قضية يعتبرها المسلم جزءاً من عقيدته؟

بكل بساطة، هذا الشيء ليس بالأمر الذي يحتاج الى باحثين في علم الغيب والفراسة، انه أمر واحد، فريق لا ينسى ماضي الآخر وفريق لا يعترف بحاضر الآخر، فريق يخاف من الآخر ولا يخاف عليه، فريق يكمن للآخر وفريق يلغيه، وفريق يريد وطناً يشبهه ولا يشبه سواه فاقترعوا جميعاً على ثيابه وصلبوه.

وهكذا لم نعد نجد حزباً أو تياراً مسيحياً يحظى بشريك أو قاعدة اسلامية، بعدما فقد حزب “القوات اللبنانية” الشريك السني، وفقد “التيار الوطني الحر” الشريك الشيعي، ولم يتمكن حزب “الكتائب” من أن يخلفهما في أي شراكة يعتد بها.

وحده سليمان فرنجية يتمايز عن أقرانه في موضوع التأييد الاسلامي الذي يقوده “حزب الله” اليوم بعدما قاده آل الأسد من قبل، وذلك ليس انطلاقاً من موقعه المسيحي بل انطلاقاً من مساره الممانع.

وما ينطبق على الحيثيات المسيحية ينطبق أيضاً على تلك الاسلامية التي تجد نفسها الآن أمام شريك مسيحي يزيد من تقوقعه ويذهب بها بعيداً الى حد المطالبة ولو في خجل بتقسيم العاصمة وفدرلة البلاد.

ونعود الى السؤال الأول، لماذا قاطع المسلمون افطار معراب؟

الجواب بسيط: المسلمون لا يصدقون كثيراً أن جعجع تحول الى “زعيم وطني” لا الى “زعيم حزبي”، ولا يصدقون أن الدعوة لم تكن تحمل غايات سياسية لا يتماهون معها، على الرغم من علمهم أن قائد “القوات اللبنانية” لم يضع على الطاولة “خبزاً مسموماً”.

انه انعدام الثقة المتبادلة حتى بايمان الآخر وتوبته، واستخفاف مشترك بالصفحات الجديدة التي تفتح غب الطلب، وتدخلات من هنا وهناك تقطع الجسور وتأخذ اللبنانيين بالقطعة ما دام الاجماع ممنوعاً وحتى مستحيلاً، فكيف يكون الوطن وطناً واحداً والشعب شعباً واحداً، ما دامت اللقمة من يد مسيحي لا تستدعي من يقول له “فصحاً مجيداً”، وما دامت حبة التمر من يد مسلم لا تستاهل من يقول له “تقبل الله صيامك”؟

شارك المقال