“إننا مع تطبيق إتفاق الطائف نصاً وروحاً، وهذا لا ذكر فيه للفديرالية، بل للامركزية الادارية، فلنطبق هذه اللامركزية، ولنعتبر الفديرالية طرحاً أو مقولة ساقطة، وتمّ التداول بها من قبل البعض خلال الحرب اللبنانية، وإنتهى الموضوع”….
هذا الكلام، جاء على لسان البطريرك بشارة الراعي منذ بضعة أيام، متبنياً “كنسياً”، اللامركزية الادارية (من دون المالية)، وسط إحتدام الصراع السياسي بين مؤيد لاجراء الانتخابات البلدية والاختيارية (ظاهرياً)، ومطالب بتأجيلها.
الواقع يشير إلى تخوف جميع القوى السياسية “السلطوية” من إجراء الاستحقاق الانتخابي، جراء التراجع الملحوظ في شعبيتها، بفعل أدائها الذي أوصل البلاد إلى إنهيار شبه شامل، والعباد إلى الافلاس ومقاربة خط الفقر.
وما يزيد هذه الطبقة السياسية إصراراً وإمعاناً في ترحيل الانتخابات المحلية، أنها تُجرى وفقاً للنظام الأكثري، الذي يتيح المجال للعائلات والناشطين لإحداث إختراق واسع في لوائحهم المعلبة، ما سيفقدهم الكثير من الامتيازات الخدماتية الريعية، التي كانوا يحصلون عليها، من المجالس البلدية، التي حوّلوها إلى ما يشبه “فروعاً” لأحزابهم وتياراتهم السياسية في المدن والقرى والبلدات.
الحديث عن اللامركزية طفح على سطح السجال السياسي، لتتقدم المطالبة بها، إلى الصفوف الأمامية، منذ أن طرح رئيس الجمهورية الأسبق ميشال عون “اللامركزية الادارية والمالية” بنداً على جدول أعمال الحوار، الذي كان قد دعا إليه، في إطار السياسة التي ينتهجها وفريقه السياسي بالمزايدة مسيحياً من دون أن تمانعه قوى مسيحية أساسية أخرى.
وإن كانت هذه اللامركزية في ظاهرها تحاكي تسهيل أمور الناس في وجهها الاداري، بعدم تحميلهم مشقات الانتقال إلى منطقة المركز لانجاز معاملاتهم، وهو ما ورد في نص “إتفاق الطائف”، غير أن إقرانها بـ “اللامركزية المالية” قد يدفع بالأمر إلى التوقف عندها، لأنها تبيت نوايا خبيثة “مفدرلة”، الهدف غير المعلن منها، أن يعيش كل مكون من المكونات الطائفية والمذهبية منعزلاً ومنغلقاً في منطقته، مما يقوّض جوهر النظام اللبناني وينسفه برمته، وهو القائم على أساس الدولة المركزية.
وردت “اللامركزية الادارية الموسّعة” في “إتفاق الطائف” تحت عنوان: “الاصلاحات الأخرى” في البند الثالث من الباب الثاني (الاصلاحات السياسية)، كحلّ وسط بين المطالبين بالفديرالية أو التقسيم الكلي آنذاك (“القوات اللبنانية” والقوى المسيحية) ورافضي التقسيم (القوى الاسلامية والأحزاب التي كانت تنتمي إلى “الحركة الوطنية”)، بعد سنوات من الحرب الطويلة بين المشروعين.
ومن الضرورة الاشارة هنا، إلى أن النظام اللبناني، أصلاً، وقبل “الطائف” ليس مركزياً تماماً، بل تُعتبر البلديات الادارة اللامركزية الأولى، تليها إتحادات البلديات (التي تفرّخ منذ سنوات من دون إعتماد معيار للحاجات التنموية، بل للاعتبارات المناطقية – الطائفية، وفقاً للمصالح والحسابات السياسية).
إذاً، فإن “إتفاق الطائف” نص على مركزية موسعة (إدارية) وليس (مالية)، مع “توسیع صلاحیات المحافظین والقائمقامین، وتمثیل جمیع إدارات الدولة في المناطق الإداریة على أعلى مستوى ممكن تسهیلاً لخدمة المواطنین وتلبیة لحاجاتهم محلياً”.
وأُدرج هذا النص، بما ينسجم مع روحية “إتفاق الطائف” والمبادئ العامة له (بأن لبنان وطن حر مستقل، وطن نهائي لجمیع أبنائه، واحد أرضاً وشعباً ومؤسسات)، وتَمسك النص بمنصبي المحافظ والقائمقام في المدن والأقضية، لأنهما يحافظان على دور الدولة المركزية فيها.
الخلاصة، أن “إتفاق الطائف” تناول اللامركزية الادارية الموسعة، من دون أن يتطرق إلى المالية منها.
ولكن، السؤال الذي يقتضي طرحه: لماذا الاصرار من “الثنائية” المسيحية على المطالبة بـ “اللامركزية” في هذا الوقت بالذات، بحيث أن طرحها، ليس أولوية ملحة، إزاء الأزمات البنوية التي يتخبط بها لبنان؟
ففي أواخر العام 2021 طرح رئيس الجمهورية العماد ميشال عون حينذاك، ضرورة الذهاب إلى لامركزية إدارية ومالية موسعة.
ومطلع العام الحالي تلاقى مع طرح عون خصمه “اللدود” على الساحة المسيحية رئيس حزب “القوات اللبنانية” سمير جعجع، الذي دعا إلى إعادة النظر في تركيبة الدولة اللبنانية للتخلص مما سمّاه “سلبطة حزب الله”، (رداً على منع “حزب الله” وحلفائه إنتخاب رئيس جديد للجمهورية)، بحيث لم يرَ أن النظام “الفديرالي” سيئ، بدليل أنه معمول به في الامارات وسويسرا والولايات المتحدة الأميركية.
بناءً على ما تقدم، يمكن تفسير وتحليل ما تخفيه النوايا الحقيقية من المطالبة بإلحاح شديد بإعتماد اللامركزية المالية، في الوقت الذي يجنح فيه فريق سياسي من المسيحيين الى تبني “الفديرالية” كحل لأزمة النظام اللبناني المستفحلة، بعدما بلغت الدولة ما بلغته من إنهيار جراءها، خصوصاً مع التعطيل المتعمد لانتخاب رئيس للجمهورية، والدخول في فراغ رئاسي، معطوف على تعطيل عمل المؤسسات الدستورية.
فهذا الطرح يعتبر واقعياً، وتخطياً لـ”الفديرالية”، كونه يلامس التقسيم الحقيقي، خصوصاً وأن كل طائفة ستستقل ضمن نطاقها الجغرافي المحلي إدارياً ومالياً، بما يشبه الادارة الذاتية، التي لبعض القوى السياسية خبرة في تطبيقها، إكتسبتها عندما نفذتها في مناطق نفوذها العسكري خلال الحرب اللبنانية.
والأخطر من ذلك، أن اللامركزية المالية، التي تعني أن تتولى كل سلطة إدارية إدارة مواردها المالية بصورة مستقلة، سوف تكرّس تفاوتاً بين المناطق والشرائح المجتمعية، مما سيثبت مقولة “التفاوت والتمايز” بين اللبنانيين ثقافياً وإجتماعياً، الأمر الذي سينتج عنه ترسيخ وتجذير لنظرة “إستحالة التعايش بين اللبنانيين”.
أما وقد أقر المجلس النيابي إقتراح قانون التمديد للبلديات والمختارين، على الرغم من المسرحية “الهابطة” التي شهدتها قاعته العامة، من سجال بين “كومبارس” مكونات السلطتين التشريعية والتنفيذية، فإن مصالح الطبقة السياسية القابضة على السلطة والمختلفة عليها قد تلاقت على الاطاحة بالانتخابات البلدية والاختيارية، مع الإمعان في الشغور الرئاسي، إستكمالاً لمسلسل تقويض ما تبقى من الدولة، من دون أن يعني ذلك، التوقف عن الطروح ذات النزعة التقسيمية، أياً تكن تسمياتها، في ظل إصرار فريق على مصادرة الدولة، والذي يقابله فريق آخر بالإقرار جهراً بإستحالة التعايش مع باقي المكونات.
فهل الاطاحة بالانتخابات البلدية، مقدمة لـ”الفدرلة” الادارية، ومن ثم السياسية؟