لا تشبه فرنسا ايمانويل ماكرون، فرنسا التي كان يعرفها اللبنانيون الأم الحنون التي تركض خلف ابنها لتحتضنه من عواصف الحرب أو من تبعات نزوات المراهقة والحسابات الضيقة في السياسة التي تهدد كيانه ووحدته أو تضرب ما بني عليه. صحيح أن فرنسا أحبت المسيحيين وكبرت دورهم ودافعت عن مصالحهم وقدمتها على مصالح بقية اللبنانيين، الا أنها اتبعت لاحقاً سياسة انفتاحية، ظهرت في تلك العلاقة المتينة المميزة التي بنيت بين الحكومات التي ترأسها الرئيس رفيق الحريري، وفي مساعدة باريس لبنان على اعادة البناء بعد الحرب وفي مؤتمرات باريس الثلاثة لتأمين الدعم.
واليوم ها هي باريس ماكرون تطل برأسها لتبني علاقات مع الثنائي الشيعي، ويأتي الرئيس الفرنسي شخصياً بعيد جريمة مرفأ بيروت لينقذ “حزب الله” من ورطة اتهامه واتهام السلطة التي يتحكم بها بـ “الريموت كونترول” من حارة حريك، وليعوّم الحزب داخلياً إن لم نقل ليغطي على جريمته وجريمة الطبقة الحاكمة طمعاً بتولي شركات فرنسية اعادة بناء المرفأ، والتحضير لما تلا ذلك في حصص النفط الموعود بعد ترسيم الحدود، فمصالح “توتال” هي اليوم المهمة وهذا ما يفسر التناغم الحاصل بين فرنسا و”حزب الله” الى حد طرح مبادرة رئاسية لصالحه، علماً أن المسيحيين يرفضون مرشح الحزب سليمان فرنجية واعادة انتاج تسوية شبيهة بالعام 2016، ومعهم أكثرية نيابية ورفض شعبي من كل الطوائف.
تجري فرنسا ماكرون خلف مصالحها ولا تخجل من بناء علاقة مع دول في محور الممانعة التي تسيطر عليها إيران، إن في العراق كما في لبنان وغيرهما، ما أدى الى خلل في التوازن في سياساتها التي بانت بصورة واضحة في لبنان من خلال علاقاتها بالأطراف اللبنانية وتجاهل مواقفها المعارضة لسياسات فريق “حزب الله” وخياراته الرئاسية.
في السابق، كانت فرنسا تطلق في سياق استراتيجيتها الدولية، مبادرات جديرة بالتنويه، على الرغم من أن بعضها كان يصعب تنفيذه بصورة جيدة، لتأتي النتيجة معاكسة، بسبب عدم ادراك ميزان القوى وتقويمه موضوعياً وثقتها المبالغ فيها بقدرتها على اجتراح حلول انقاذية.
لا تناغم بين الاستراتيجية والتكتيك في السياسة الفرنسية وهذا ما يظهر جلياً في الموضوع اللبناني، فبعد انفجار مرفأ بيروت، بذل الرئيس الفرنسي جهوداً كبيرة وخصص وقته كما قيل لإخراج بلد الأرز من أزمتيه الاقتصادية والسياسية. زار بيروت متعاطفاً ولاقت زيارته ترحيباً شعبياً لبنانيا، ولكن ذلك لم يغيّر في الوضع السياسي ولا الوضع المعيشي ولو قليلاً، بل حصل تراجع واضح. فمن الناحية الاستراتيجية، كان الرئيس الفرنسي محقاً في اهتمامه بالملف لأسباب عدة كما يشير محللون فرنسيون، منها:
“- أولاً، ان الدولة اللبنانية أسستها فرنسا من الناحية السياسية، ومن الطبيعي أن تهتم هذه القوة بما زرعت.
– ثانياً، لبنان هو ديموقراطية متسامحة، يتعايش فيه المسيحيون كاثوليك وأرثوذكس، والمسلمون سنة وشيعة ودروز، ويجب الحفاظ عليها كنموذج مجتمع في الشرق الأوسط بأجمعه.
وأخيراً، لأن فرنسا تحتل الموقع الأفضل بالنسبة الى البلدان الأخرى لتلعب دور العراب في لبنان المتجدد. وهي بذلك في موقع أفضل من الولايات المتحدة الأميركية، التي فقدت مصداقيتها بعد تدخلها الكارثي في العراق. وهي في موقع أفضل أيضاً من إيران المحكومة بنظام سلطوي ديني منهك. وفي موقع أفضل من المملكة العربية السعودية المشغولة باستعادة السلام مع البلدان المجاورة”.
وبحسب المحللين، فان ملخص الاستراتيجية الفرنسية في لبنان “ساعد نفسك يساعدك الله”، فمنذ مؤتمر “سيدر” الذي عقد في باريس في شهر نيسان 2018، قالت فرنسا للبنانيين بأن عليهم القيام بالاصلاحات، إصلاحات النظام المصرفي والادارة العامة وقطاع الطاقة، وفي المقابل، ستعمل على توفير منح وقروض من المؤسسات المالية الدولية، مثل صندوق النقد الدولي والاتحاد الأوروبي والبنك الدولي، ومن دول الخليج العربية. إنها إستراتيجية جيدة وواضحة ومحقة، لكن المشكلة أن رؤساء الأحزاب الكبيرة في لبنان هم إقطاعيون طائفيون، غير قادرين على التخلي ولو عن قدر صغير جداً من سلطتهم ونهبهم على مذبح الاصلاحات. وقد مضت ستة أشهر ولم يتفقوا بعد على اسم رئيس للجمهورية بعد أن ترك ميشال عون القصر الجمهوري.
اليوم تدرك فرنسا أن الصعوبة في انتخاب فرنجية رئيساً تكمن في تأمين نصاب الثلثين حتى تصبح جلسة الانتخاب شرعية، ولذلك يتعذر انتخاب رئيس غير توافقي.
أوكلت الولايات المتحدة الأميركية في عهد دونالد ترامب ثم في عهد جو بايدن، الى فرنسا بصورة غير معلنة، إدارة الملف اللبناني. وكررت أن لديها فقط ثلاثة مطالب، وهي الاصلاحات، ورئيس حكومة إصلاحي، ورئيس جمهورية لا يعرقل الاصلاحات، لكن المفاجأة بالنسبة الى نواب المعارضة والتغيير هي تشجيعها ترشيح فرنجية الذي يتبناه “حزب الله”، وطلبها من السعودية دعم ترشيحه بإقناع النواب السنة.
وبالطبع كانت السعودية على موقفها من أنها لا تدعم مرشحاً غير توافقي وغير انقاذي، ولكن يبدو أن وراء الأكمة ما وراءها ففرنسا ليست غبية لتعتقد أن شخصية مثل فرنجية ستحترم وعودها بالقيام بالاصلاحات وتسهل عمل الحكومة فالقرار بيد من رشحه.
والسؤال الذي يجب أن يطرح: كيف يمكن الافادة من المصالحة الايرانية – السعودية للتوصل إلى اتفاق حول شخصية إصلاحية حقيقية؟ ولماذا تقدم فرنسا لسوريا وايران والثنائي الشيعي انتصاراً بإعطائهم رئاسة الجمهورية أيضاً، التي عبرها يتم تعيين رئيس الحكومة المقبل وحاكم مصرف لبنان وقائد الجيش، أي التحكم بالقرارات الأمنية والمالية؟ فهل تريد فرنسا اعادة سوريا وإيران إلى الساحة الدولية، عبر سيطرتهما على الساحة اللبنانية وتسليمهما مفاتيح لبنان حالياً بعدما احتلتاه وسرقتاه واغتالتا قياداته ومنعتا قيامته؟ وأي سياسة هذه تأتينا من الأم الحنون التي تحولت الى خالة زوجة أب كما يقولون، سياسة تضر بلبنان وشعبه وتضع مستقبله في مهب المصالح الاقليمية والدولية؟