انهيار مسيحي ولكن…

جورج حايك
جورج حايك

يعتبر المسيحيون اللبنانيون أن دينهم هو دين رجاء، ويسعون إلى مقاومة اليأس نتيجة تفكك الدولة سياسياً ودستورياً واقتصادياً ومالياً، ومقاومة حالة الانهيار التي يعيشونها مع كل الشعب اللبناني.

لكن بموضوعية، يدفع المسيحيون ثمن خياراتهم السياسية الخاطئة منذ عام 2005 مروراً بعام 2009 وصولاً إلى 2018 عبر ثلاث دورات انتخابية أعطوا فيها الثقة للفريق السياسي المتمثل بالعماد ميشال عون، فكانت له أكثرية نيابية ساقتهم إلى خيارات بعيدة عن ثوابتهم السيادية التاريخية، بل تناقضت مع إيمانهم بالدولة التي كانوا أساسيين في تكوينها وأرادوها ميثاقية، حيادية، منفتحة على كل دول العالم من الشرق والغرب، مستقرة، مزدهرة، تؤمن بالحرية والمساواة والإنسان والدستور والقانون وحقوق الإنسان والقرارات الدولية.

قد تحتاج خيارات المسيحيين في لبنان إلى دراسات عميقة تأخذ في الاعتبار كل العوامل التي تعرضوا لها منذ اندلاع الحرب اللبنانية عام 1975 حتى اليوم، لكن ثمة من يتساءل حالياً وبعد كل ما حل بالمسيحيين من نكبات، هل تعرضوا للخداع السياسي؟ هل تغيّروا وتخلوا عن ثوابتهم الحضارية التاريخية وعمقهم العربي والدولي لمصلحة حلف الأقليات الذي تعني ترجمته وفق النظريات العونية الانتماء إلى مشرقيّة ممانعة مؤلفة من إيران وسوريا والعراق واليمن؟ هل يفضّلون هذا المحور على حساب عمقهم العربي والخليجي المعتدل؟ هل يريدون تغيير صداقاتهم الدولية أي الولايات المتحدة وفرنسا وبقية الدول الأوروبية التي تربطهم بها علاقات تاريخية والاندماج بمشاريع إيران والنظام السوري؟

كلها أسئلة مشروعة تستحق مقالات عديدة للإجابة عنها، وهذا ما حرّك عاصمة الكثلكة في الفاتيكان، إذ شعر البابا فرنسيس ومستشاروه بأن المسيحيين في الشرق وخصوصاً في لبنان في حالة انهيار، ويبدو أن البطريركية المارونية بتوجيه من البطريرك مار بشارة بطرس الراعي، لعبت دوراً كبيراً لدفع الفاتيكان إلى التحرك من أجل حث عواصم القرار على عقد مؤتمر دولي للبنان يهدف إلى تنفيذ قرارات الأمم المتحدة وقبول حياد لبنان، والمساعدة في إعادة تكوين السلطة وفي مكافحة الفساد واستعادة الأموال المنهوبة وحل قضية اللجوء والمساعدة في حل الأزمات المالية.

لكن بعض القياديين المسيحيين يتساءلون عن فعالية اللقاء الفاتيكاني في مطلع تموز المقبل، والذي سيضم بطاركة أي الممثلين الروحيين للطوائف المسيحية وليس ممثلي القوى السياسية المسيحية المتنازعة وغير المتفقة على استراتيجية مسيحية واحدة للمحافظة على الوجود! فهل الخلاف هو بين البطاركة أصلاً؟ وما هو مدى تأثيرهم على القادة السياسيين؟

مع ذلك، تبدو رؤية بكركي الأوضح على صعيد الاستراتيجية والوسائل المتاحة لوقف الانهيار اللبناني عموماً والمسيحي خصوصاً، من خلال تطبيق مبدأ الحياد الإيجابي والمطالبة بمؤتمر دولي، إلا أن شيئاً من ذلك لم يتحقق حتى الآن، علماً أن الوقت ليس لمصلحة المسيحيين الذين لا يمكنهم العيش في هذا اللبنان المشوّه حضارياً وتُسجّل بينهم عمليات هجرة واسعة سواء كانت مؤقتة أو دائمة في الآونة الأخيرة، وبالتالي يتطلب الأمر جهوداً سريعة وحثيثة لوقف النزيف وانقاذ المسيحيين ولبنان من لعنة وضعه فيها محور المقاومة والممانعة الذي لم يجلب سوى الفقر والذل والانهيار لكل الشعب اللبناني وليس للمسيحيين فحسب.

أمام هذا الواقع تعيش الساحة المسيحية السياسية حالة من التشرذم الكبير، فهناك قوى سياسية تتجاذب هذه الساحة وتختلف مع بعضها بالعمق لأسباب عديدة بعضها مبدئي وبعضها الآخر يتعلق بمصالح آنية ضيقة، نذكر منها التيار الوطني الحر الذي يتحالف مع حزب الله لأهداف سلطوية ومصلحية، ويساهم معه في تغيير وجه لبنان الحضاري، ويأخذ المسيحيين من خلال هذا التموضع إلى مزيد من العزلة العربية والدولية.

من جهته، يتموضع تيار المردة ورئيسه سليمان فرنجية في محور المقاومة والممانعة أيضاً لأسباب مبدئية وسياسية، ولن يكون المسيحيون في ظل هذا الخيار بمأمن عن صراع المحاور في المنطقة.

أما القوات اللبنانية فيبدو مسارها الأكثر ثباتاً وربما الأكثر وضوحاً داخل الحياة السياسية نتيجة عدم تخليها عن ثوابتها السيادية والكيانية وعدم انخراطها في عمليات الفساد المتراكمة في الدولة اللبنانية وايمانها بضرورة انخراط لبنان في بيئته العربية وانفتاحه دولياً، وقد قدّمت القوات نموذجاً صالحاً نيابياً ووزارياً، لذلك تزداد شعبيتها في الشارع المسيحي.

ولا تختلف الكتائب اللبنانية بقيادة رئيسها الشاب الطامح سامي الجميل بطروحاتها الاستراتيجية الكبرى عن القوات اللبنانية، إلا انها تختلف معها بالتكتيك فحسب، ويعتبر الجميل أن حزبه يلتقي مع القوى التغييرية، ولا يجد قواسم مشتركة مع القوات ويتهمها بأنها جزء من المنظومة الحاكمة!

القوّة الخامسة والأخيرة التي بات لها وزن في الساحة السياسية المسيحية، هي الشخصيات المستقلة والمجموعات المدنية التي تطرح نفسها كقوى تغييرية رافضة للأمر الواقع، وقد وُلِدَ بعضها من رحم ثورة 17 تشرين.

ثمة مؤشرات نتيجة استطلاعات للرأي تؤكد أن رهان الرأي العام المسيحي الصامت في الانتخابات النيابية المقبلة لن يكون على القوى السياسية المسيحية التي تدور في فلك حزب الله نتيجة المعاناة التي يعيشها حالياً بسبب هذا الرهان وعقم تجربة هذا المحور غير المنسجم مع وجه لبنان الحيادي والمستقر والحضاري المنفتح والمزدهر، لذلك يرفض حزب الله الانتخابات النيابية ويتخوّف منها لعلمه أنه سيخسر الأكثرية في المجلس النيابي إذا فازت القوى السياسية المسيحية غير المتحالفة معه واندمجت مع قوى سيادية سنيّة وشيعية تعارض مساره.

لكن في الوقت نفسه، لا يستبشر الرأي العام المسيحي كثيراً بالقوى السياسية المناهضة لمشروع حزب الله لأنها مبعثرة ومشرذمة وغير متماسكة وتتخبط بخلافاتها وطموحاتها، فماذا يمنع مثلاً من تحالف الكتائب والقوات اللبنانية والقوى التغييرية المستقلة في الانتخابات النيابية المقبلة؟ مع العلم أنه الحل الوحيد لتغيير الأكثرية الحاكمة التي جلبت الويلات إلى لبنان، والتغلّب على الرهانات المسيحية الخاطئة التي ساهمت في دفع البلد إلى الانهيار.

الوجود المسيحي اللبناني في خطر بل ينهار سريعاً، ولم يعد منطقياً اعطاء الثقة لقوى سياسية مسيحية لا تنسجم على الأقل مع طروحات البطريرك الراعي، إنها طريق الخلاص الوحيدة للمحافظة على ما تبقى من وجود مسيحي يتضاءل يوماً بعد يوم، فالحياد والمؤتمر الدولي هما العنوانان الأساسيان اللذان يجدر بالقوى السياسية المسيحية المناهضة لحزب الله ومحور المقاومة والممانعة أن تخوض بهما الانتخابات النيابية المقبلة مع تحالفات ذكية تنسجم مع هذه المبادئ والثوابت من أجل تحقيق الانتصار.

الانتخابات النيابية ستوفّر فرصة تاريخية واستثنائية لتصحيح الأخطاء التي ارتكبها المسيحيون منذ 35 عاماً حتى اليوم. آن الآوان للخروج من مستنقع الذل والذمية والفساد واعطاء القوى السياسية الاصلاحية والرؤيوية والسيادية حقها في تمثيل المسيحيين واستعادة المفاهيم المنطقية والدستورية التي ترتكز على وجود الدولة لا الدويلة، إذ لا شيء يحمي المسيحيين ويعزز وجودهم في لبنان إلا سلطة جديدة تبني دولة سيدة، حرة ومستقلة، تحتضن اللبنانيين، مسيحيين ومسلمين، على قدم المساواة من دون حيازة أي طرف على سلاح إلا سلاح الجيش اللبناني، وتقوم بإصلاحات ضرورية وتأتي بالأموال من الخليج والولايات المتحدة والدول الصديقة في أوروبا والمؤسسات الدولية، مع إعلان الحياد الإيجابي، والإنصراف إلى الإنماء والتطور العلمي والثقافي واللحاق بالعالم الحر، واستعادة لبنان وجهه الحضاري التاريخي المميّز.

شارك المقال
ترك تعليق

اترك تعليقاً