بين طرابلس وتركيا… علاقات متبادلة وروابط وحنين!

إسراء ديب
إسراء ديب

لم يكن يوم الأحد يوماً عادياً في مدينة طرابلس، فهذا اليوم الذي أجريت فيه الانتخابات الرئاسية التركية بجولتها الثانية كان صخبه والرغبة في احتوائه أكبر بكثير من احتواء الطرابلسيين لانتخاباتهم المحلّية نيابياً وبلدياً، اذ لم تشهد المدينة منذ أعوام عدّة مثل هذه الأجواء المفرحة والناتجة عن استحقاق ترتبط به وجدانياً وعاطفياً.

يُمكن القول، إنّ الأجواء التي سيطرت على المدينة قبل إعلان فوز الرئيس التركيّ رجب طيّب أردوغان ليست كما بعده، فصحيح أنّ طرابلس لم تشهد هدوءاً في ساعات النهار، لكنّها رحّبت بفوز “السلطان” كما يُطلقون عليه، باحتفالات عمّت شوارعها وأحياءها ليلاً إذْ لم يغلب النعاس أهالي الفيحاء هذه المرّة، بعد أن غلبهم لأعوام طويلة وسط حال الفقر والظلام الذي كسر الفوز عتمته.

وفي ساعات النهار، رُفع علما تركيا ولبنان اللذان تجاوز طولهما الـ 25 متراً على ساعة التل في طرابلس، ما يحمل رمزية تُشير إلى الارتباط الكبير للطرابلسيين بالحقبة العثمانية حتّى اللحظة، فبرج الساعة هو معلم عثمانيّ تُطلق عليه أيضاً أسماء أخرى أبرزها ساعة السلطان عبد الحميد والساعة الحميدية التي تجمّع أمامها المئات ليلاً احتفالاً بالفوز، وبالتالي إنّ هذا المعلم الثقافي والتاريخي الذي يعود بناؤه إلى العامين 1901 و1902، كانت أهدته السلطات العثمانية إلى المدينة بمناسبة مرور 25 سنة لتولي السلطان عبد الحميد الثاني الحكم، ولم يكن هذا البرج هو الرمز الوحيد الذي أهدي إلى المدينة التي كانت معروفة بوفائها وولائها للسلطنة العثمانية في ذلك الوقت.

وكانت انتشرت دعوات عدّة شدّدت على ضرورة التجمّع احتفالاً بالفوز الذي لم يكن أمراً مشكوكاً بنتيجته بالنسبة إلى الطرابلسيين، على الرّغم من المنافسة الشرسة التي شهدتها هذه الانتخابات، وجابت مواكب سيّارة شوارع المدينة التي اخترقها المناصرون بالرصاص الطائش والمفرقعات النارية، كما تجمّع العديد من المواطنين كلّ في ساحته للاحتفال بهذا الخبر مع رفع اللافتات الداعمة وبث الأناشيد التي تناصر الرئيس التركي.

ولا يُخفي العديد من الطرابلسيين الذين حضروا إلى هذه التجمّعات، أنّ السلطة اللبنانية بكلّ أركانها “لم تترك فقيراً إلّا وزادته فقراً، ولم تترك طرابلسياً إلّا وأهانته بسياساتها التي انتهجتها عمداً عبر سنوات، والقائمة على تكريس الذلّ، والفقر والعوز بين الناس”، فيما لا يُخفي آخرون أهمّية اختيار رئيس للجمهورية في البلاد يُشبه أردوغان الذين يرونه يحبّ بلده ويسعى إلى تنميته مع حزب “العدالة والتنمية” الذي يترأسه بقدرته القيادية، ويُمكن القول إنّه على الرّغم من تراجع أداء الحزب أخيراً، إلا أنّ محبّة أهالي المدينة تضاعفت فعلياً منذ ترؤس أردوغان الحكم في بلاده وباتت مرتبطة بوجوده مع حزبه بصورة رئيسية، إذْ يُشعرهم دائماً بالحنين إلى الحضارة العثمانية التي يفتقدها معظمهم وهي حضارة إسلامية شعروا معها بالاعتزاز والفخر، ولهذا السبب لا يمتنع طرابلسيون عن وضع لافتات أو أعلام بصورة الرئيس التركي لدعمه مع الآلاف من المناصرين في بيروت وعكار ضدّ منافسه كيليجدار أوغلو الذي يحمل مبادئ مخالفة لتوجهاتهم لا سيما تلك المرتبطة بترحيله اللاجئين السوريين قسراً من تركيا، وهذا ما لم يفعله أردوغان الذي عزم على تسهيل إعطاء الجنسية التركية لهم ضمن شروط معيّنة لن يكون أوغلو مستعداً لتقديمها للمجتمع التركي الرافض بغالبيته لوجود اللاجئين على أراضيه.

في الواقع، إنّ محبّة الطرابلسيين للأتراك عموماً، تعود الى سبب رئيس يقوم على افتقاد معظمهم السلطنة العثمانية التي تركت خلفها مآثر ولعبت دوراً رئيساً في تطوير هذه المدينة التي تُخلّد الأثر العثماني عمرانياً، تاريخياً وتربوياً (إذْ تجاوز عدد المدارس في المدينة خلال الحقبة العثمانية الـ 300)، وهي تضمّ اليوم أكثر من 200 معلم أثريّ من الحقبتين المملوكية والعثمانية خصوصاً، لكن يُواجه الكثير منها تهميشاً لن تُنقذه إلّا الجمعيات التركية الحاضرة في المدينة والتي لعبت دوراً مهمّاً خلال الأعوام الأخيرة في أعمال التأهيل، من هنا يُمكن ذكر بعض المعالم المعروفة فيها: التكيّة المولوية، مسجد محمود بك السنجق، سبيل الزاهد، التكيّة القادرية… وغيرها.

عموماً، إنّ الانتماء الذي يشعر به الطرابلسيون لا يرتبط بالشق السياسي أو الوجداني والتاريخي فحسب، بل يرتبط بأصول بعض العائلات الطرابلسية العائدة لتركيا، والتي يُمكن للعديد منها الحصول على الجنسية التركية وفق ما يُؤكّد البعض ويُمكن ذكر بعضها: سنجقدار، بيرقدار، جبخانجي، صابونجي، كندرجي، قندقجي، خانجي، خربطلي، لاذقاني، اسكلمجي، سبقجي ومولوي وغيرها من العائلات التي ترتبط بأصول إدارية، دينية وعسكرية تركية، كما لا يُمكن إغفال تجمّع آلاف التركمان في عكار أيضاً، فقرية الكواشرة العكارية يعود أصول أبنائها إلى تركيا، الأمر الذي يزيد من شدّة الروابط العائلية التي “تشبك” شمال لبنان بتركيا.

شارك المقال