صدق الذي قال ان ما بعد الجلسة الانتخابية في 14 حزيران الفائت غير ما قبلها، فوقائع هذه الجلسة أثبتت أن الثنائي الشيعي لا يريد انتخابات رئاسية، بل يتجاوز الدستور في افقاد النصاب قبل الانتقال إلى الدورة الثانية، وهو غير مقتنع باللعبة الديموقراطية، ويفسّر الأمور عكس ما هي في الواقع، إذ يعتبر مرشحه سليمان فرنجية فائزاً بـ51 صوتاً، فيما مرشّح تقاطع المعارضة و”التيار الوطني الحر” جهاد أزعور خاسراً بـ59 صوتاً!
لم يعد أداء الثنائي الشيعي منطقياً لأنه لا يعترف بمعايير اللعبة الديموقراطية التي ينص عليها الدستور ضارباً عرض الحائط بالأرقام وأبسط شروط المنطق، بل يفاخر بانتصارات وهميّة لا علاقة لها بالواقع!
لا شك في أن ما حصل في الجلسة الانتخابية الـ12 لم يكن مفاجئاً، ولم يكن أحد من المسؤولين في القوى السياسية والمراجع الروحية يعوّل على انتخاب رئيس للجمهورية في ظل هذا الانقسام العمودي، إلا أن سيناريو هذه الجلسة كان مطلوباً دولياً لتحديد الأحجام قبل التسوية القادمة. وما يسوّقه الثنائي الشيعي لا يؤخذ به في عواصم القرار، وخصوصاً أنه فاقد للمصداقية، وتعطيله للانتخابات الرئاسية أصبح واضحاً للمجتمع الدولي.
فالسيناريو الفرنسي – السعودي كان يقضي بدفع القوى السياسية المعارضة الى الاتفاق على مرشح، فوقع الاختيار على جهاد أزعور لمنازلة حقيقية مع مرشح الثنائي الشيعي سليمان فرنجية في جلسة جسّ نبض، تكشف حقيقة موازين القوى. وهذا السيناريو كان يعلم به البطريرك الماروني مار بشارة بطرس الراعي بعد لقائه الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون، فعاد إلى لبنان مطمئناً، محاولاً اقناع رئيس مجلس النواب نبيه بري بالدعوة إلى جلسة انتخاب، وأرسل المطرانين بولس عبد الساتر ومارون العمار إلى الأمين العام لـ”حزب الله” حسن نصر الله وبري من أجل هذا الهدف، إضافة إلى سعي لإقناعهما بالتوافق على أزعور الذي نال تأييداً من الأكثرية المسيحية، إلا أن الثنائي لم يقبل سوى بالدعوة إلى الجلسة وخصوصاً بعدما لوّح المجتمع الدولي والولايات المتحدة بالعقوبات بحق بري. وهذا ما حصل، إذ جرت الانتخابات وانكشفت الأحجام. حاول “حزب الله” الضغط على بعض النواب لرفع مستوى التصويت لفرنجية، وتمكّن من النجاح على نحو محدود، رافعاً الأصوات المؤيدة له من 44 صوتاً إلى 51.
مع ذلك، بقي أزعور، على الرغم من كل اجتهادات الثنائي وتأويلاته، المرشّح الأقوى والأكثر جديّة والأهم أنه الممثل للتعددية اللبنانية، ولكن باتت هناك قناعة تامة لفرنسا والفاتيكان والبطريرك الراعي بأن هذا المجلس عاجز عن انتخاب رئيس، والمعارضة تُدرك ذلك بسبب تجاوز الثنائي الشيعي الدستور واستخفافه باللعبة الديموقراطية، وقد أكد رئيس حزب “القوات اللبنانية” سمير جعجع أنه بات ضرورياً إعادة النظر بالتركيبة السياسية في ظل محاولات الثنائي فرض الرئيس التابع له، وبالتالي هذا اعتراف بأن الأزمة تتجاوز الملف الرئاسي والحوارات المحلية الممجوجة، وبات لبنان بحاجة إلى تسوية كبيرة تحت اشراف دولي.
ويبدو أن رحلة الألف ميل نحو هذه التسوية بدأت، فالرئيس ماكرون كان يحتاج إلى نتيجة واضحة لجلسة انتخابية يكون فيها تنافس بين مرشحين، وهذا ما حصل في 14 حزايران الفائت، وبدت النتيجة ليست لمصلحة محور الممانعة ومرشّحها، لذلك سيستخدمها ليقول لـ”حزب الله” ان مرشحه بات خارج المنافسة بل يمثّل أقليّة نيابية، وهذا الكلام وتفاصيل التسوية كانا حاضرين في لقاء ماكرون وولي العهد السعودي محمد بن سلمان، بحيث ستكون مناسبة للبحث في دعوة المسؤولين اللبنانيين إلى فرنسا أو أي دولة عربية للاتفاق على بعض التعديلات للنظام اللبناني المتعثّر، وانتخاب رئيس جديد وفق معادلة لا غالب فيها ولا مغلوب بين القوى السياسية، ومن المتوقع أن يقوم هذا الرئيس بمهمة تنفيذ بنود التسوية المتفق عليها، فيكون متحرراً من أثقال الأمر الواقع والقادر على إدارة الجمهورية انطلاقاً من دستورها ودورها التاريخي.
حتماً “حزب الله” لا تريحه شروط دولية تحرر لبنان من هيمنته، بل لا يريحه حوار برعاية دولية، ويفضّل حوارات محلية من دون التزامات، إلا أن مساحة تلاعبه بالورقة اللبنانية بدأت تضيق مع زيادة الاهتمام الدولي بلبنان وإنقاذه من وضعه الحالي البائس، وأول الغيث سيكون وصول وزير الخارجية الفرنسي السابق جان ايف لودريان إلى لبنان يوم الأربعاء المقبل، بحيث سيحاول أن يترجم ما اتفق عليه بين ماكرون وبن سلمان، وجسّ نبض القوى السياسية اللبنانية لحوار في رعاية دولية، حتماً سيلاقيه البطريرك الراعي في منتصف الطريق لتسهيل مهمته مسيحياً.
في موازاة ذلك، لن تتخلى المعارضة عن أزعور على المدى المنظور، وليس متوقعاً أن يتخلى الثنائي الشيعي عن فرنجية، وقد نشهد مرحلة فراغ يستمر أكثر من شهرين، إلى حين تتبلور تفاصيل التسوية التي قد تبصر النور في مطلع تشرين الأول المقبل، وهذا يعني صيفاً سياحياً هادئاً يستمر فيه السجال السياسي المحلي من دون فاعلية.