“الأستاذ”… هل ارتكب غلطة “الشاطر”؟

أنطوني جعجع

للمرة الأولى منذ تقدم “حزب الله” على الجميع في مجال التحديات والصراعات والعقوبات، يقفز الرئيس نبيه بري الى الواجهة ويتحول بين ليلة وضحاها الى “المطلوب رقم واحد” في حسابات أميركا، و”المشاغب رقم واحد” في حسابات المجتمعين العربي والأجنبي، بعدما فشل هذه المرة في التلطي خلف “خط الممانعة” والإفلات، كما في كل مرة، من أي صدام مباشر قد يطاول موقعه السياسي من جهة، وموقعه المالي من جهة أخرى.

فما حدث في الجلسة الثانية عشرة لانتخاب رئيس للجمهورية، نصّبَ بري “رأس حربة” في ادارة عملية مدروسة وملتبسة تقوم على أمرين: عقد الجلسة بنصاب كامل كما يريد الأميركيون الملوحين بالعقوبات، ثم تعطيله كما يريد “حزب الله” الملوح بالويل لمن يعمل لاسقاط سليمان فرنجية وانتزاع قصر بعبدا من منطقة نفوذه وقراراته.

لكن حسابات بري، الحانق على الأحزاب المسيحية التي عاكست مبادراته الحوارية ورفضت السير بمرشحه، لم تجرِ كما كانت تجري عادة في محطات سابقة، اذ وجد نفسه عالقاً بين موقف أميركي يتهمه بالتلاعب و”التشاطر”، ويرفض ضمناً أي رئيس يشبه الرئيس ميشال عون أو يكمل عهده، وموقف “ممانع” يضغط عليه لسحب “الأرنب” الذي يمنع سليمان فرنجية من السقوط بأي ثمن وأي طريقة.

ويقر مصدر قريب من عين التينة بأن بري الذي أخطأ “عندما قدم أعصابه على حكمته” من خلال السير برئيس تيار “المردة” نكاية بكل من جبران باسيل وسمير جعجع، تلقى رسائل مباشرة وغير مباشرة من الأميركيين تطلب منه فتح مجلس النواب بعدما لمسوا وجود فرصة لانتخاب رئيس لا يكون فرنجية، مهددين بفرض عقوبات عليه وعلى عائلته ومعاونيه، مشيراً الى أن رئيس مجلس النواب ضغط من جهته على حسن نصر الله لفتح البرلمان أمام جلسة انتخاب صورية ترضي واشنطن، ثم تطيير النصاب والدخول في جولة جديدة من عمليات شراء الوقت وتغيير المعادلات والتوازنات.

ويضيف: ان الضغط الذي مورس من أميركا و”حزب الله” بدا واضحاً على وجه بري وتصرفاته وادارته المرتبكة للجلسة الثانية عشرة، وهي الجلسة التي لم تنفع حنكته وظرافته وهيبته في اخفاء خريطة الطريق التي كان يسعى الى فرضها.

وليس سراً أن البيان الهادئ الذي أصدره بري بعد الجلسة وفيه دعوة الى الحوار من دون شروط، كان موجهاً الى الأميركيين أكثر مما هو الى قوى المعارضة، محاولاً ايجاد مبررات لعدم الذهاب الى جلسة ثالثة عشرة يخشى أن تنتج رئيساً لا يكون من اختيار الثنائي الشيعي خصوصاً أو يكون من اختيار المعارضة عموماً.

وليس سراً أيضاً، أن بري يعرف أن قوى المعارضة لن تعطيه ما يرغب في تمريره، ويعرف أيضاً أنه فقد صفة “رجل الدولة” الذي يجترح المعجزات الحلولية، وتحوّل الى “رئيس ميليشيا” لا يملك من الحلول الا تلك التي يحاول “حزب الله” فرضها على الجميع، أي أعطونا سليمان فرنجية رئيساً وخذوا الوزارات السيادية والثلث الضامن ومواقع أمنية وسياسية تقترب من الشغور.

ويجمع الكثير من المراقبين على أن بري لم يقرأ جيداً المتغيرات والتحولات الأخيرة في المنطقة، ولم يتوقع قدرة المعارضة على التكتل حول مرشح واحد بعد تعثر النائب ميشال معوض، ولم يتوقع أيضاً أن يغرّد وليد جنبلاط في مكان آخر، وأن يتخلى سمير جعجع عن “صداقتهما العزيزة” ويقودان مع خصمه اللدود جبران باسيل معركة الانقضاض على فرنجية من جهة، و”مبادراته التوافقية” من جهة أخرى.

ويضيف هؤلاء: ان بري لم يتنبه الى أن الرئيس بشار الأسد يبدي كل استعداد ممكن للتعاون مع أميركا سعياً الى فض العقوبات عن كاهله، وأن ايران تبدي الاستعداد نفسه للتوصل الى اتفاق نووي قد يفك طوق العقوبات عن عنقها ويجنبها أي مواجهة مع الترسانتين الأميركية والاسرائيلية، في مقابل تنازلات تمتد من اليمن الى لبنان، ومنها ما يتعلق بالملف الرئاسي الذي ترى فيه واشنطن أمراً حيوياً في سياق العمل لسحب لبنان من قبضة “حزب الله” المطلقة.

ويكشف مصدر آخر أن بري بات على اقتناع بأن اللعبة التي مارسها قبل انتخاب ميشال سليمان ثم قبل انتخاب ميشال عون، أي اقفال البرلمان وتعطيل النصاب، ليست مجدية هذه المرة، خصوصاً أن المعارضة التي تساهلت أو تنازلت في السابق، لا تبدو حتى الآن على الأقل، في وارد التنازل أو التساهل حتى لو امتد الفراغ أسابيع وأشهراً.

ويرى المصدر أن رئيس حركة “أمل” يعرف هذه المرة أن العقوبات الأميركية ستطاله شخصياً وليس بعض أعوانه المقربين كما حدث في مرات سابقة، وأنه فقد قدرة الاستيعاب والتجيير، وتحول من مرجعية تلجأ اليها معظم الكتل النيابية والتيارات السياسية الى جزء مكشوف من معسكر الممانعة، لا بل الى العصا التي يضرب بها عندما يحتاج “حزب الله” الى بديل أو وكيل أو شريك.

وانطلاقاً من هذا المشهد، لا يبدو أن أكمام بري تخبئ الكثير من الأرانب، خصوصاً أنه لم يعد يملك الكثير من الخيارات والمخارج على المستوى السياسي والكثير من الصداقات على المستوى الشخصي، باستثناء تحالف مع حسن نصر الله قد يجره الى مواجهات لا يقوى عليها، تحديداً في ظل الهوة التي فتحت مع الرئيس بشار الأسد بعد ثورة العام ٢٠١١، وبعدما رفض ارسال رجاله الى سوريا لمساعدة النظام على مواجهة خصومه.

وانطلاقاً من المشهد عينه، لا بد من السؤال: ماذا يمكن أن يفعل الرجل كي يرضي “حزب الله” ويتجنب أي صراع عسكري معه على الأرض؟ وماذا يمكن أن يفعل كي يتجنب استفزاز الأميركيين الذين يقولون في كواليسهم ما لم يسمعه على مدى حياته السياسية كلها؟

ويقول ديبلوماسي أميركي في هذا الصدد: اذا أردتم اصابة “حزب الله” فصوّبوا نحو نبيه بري الذي رفض التعاون في موضوع تفجير المرفأ كي يحمي حسن نصر الله والنظام السوري، والذي يصادر مجلس النواب ويحوّله الى ما يشبه “مجلس شورى” يخفي ما يشاء ويقر ما يشاء، متجاهلاً الدستور الذي تحول في ممارساته الى مجرد كتاب مطاط يشده الى الاتجاه الذي يتماهى مع مصالحه.

وأخيراً، لا بد من السؤال عن مصير الجلسة الثالثة عشرة، اذ هل تبقى مغلقة في انتظار أن ينتزع الثنائي صفقة “الرئيس في مقابل امتيازات”؟ وهل يصل النواب اليها متفرقين ومشتتين، بحيث يخرج منها جبران باسيل أو وليد جنبلاط؟ وهل تتدخل السعودية لدى النواب السنة المعتدلين وتوجههم نحو خيار ينسجم مع المصالحة السعودية – الايرانية والسعودية – السورية؟ وهل ينجح الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون في استيعاب المسيحيين وتليين مواقفهم؟ وهل يتفق المعارضون على مرشح آخر لا يكون جهاد أزعور، بل شخصية وسطية لا تحكم ضد الممانعة ولا تحكم باسم المعارضة؟ وهل يقدم نبيه بري على خيار يقدم فيه مصلحته على مصالح الآخرين بعدما أدرك أن أرانبه قد نفقت الواحدة بعد الأخرى، وأن موقع الحَكَم الذي كان يوحي به اتخذ شكل الطرف الذي يستغل غياب الرئيس الأول الى الحد الذي يرفض تمرير أي قرار أو حل أو مخرج أو اتفاق من دون توقيعه؟ اضافة الى أنه بات في نظر المعارضة المرجعية التي ترسم الحدود البحرية وتغيّر التواقيت العالمية وتنتزع الحصة الأكبر من التعيينات والامتيازات وتعطل الرئاسة الأولى وتتحكم بالرئاسة الثالثة وتصادر الرئاسة الثانية؟

الجواب الأبرز لكل هذه التساؤلات، يتمثل في حقيقتين: الأولى أن نبيه بري فقد “سحره القيادي” في الداخل و”أداءه الانفتاحي” في الخارج، وأن موفدي أميركا لم يعودوا ينظرون اليه كحيثية معتدلة تحمل مفاتيح الحل، بل طرف فاضح يحمل أقفال التعطيل ويرمي مفاتيحها في جيبة حسن نصر الله.

هي أيام صعبة تنتظر الجميع في لبنان، خصوصاً أن الحل الذي ينتظرونه من الخارج لن يتحول الى أولوية قبل أن ينتهي أطراف النزاع في المنطقة من ترتيب بيوتهم الداخلية اقتصادياً وأمنياً واستراتيجياً، وقبل ترسيخ مصالحات ثابتة تبدأ بحكم الحاجة الى السلام وتنتهي بانتفاء الحاجة الى الحرب.

شارك المقال