“الانقلاب” هل يكتمل في المكمل؟

أنطوني جعجع

لم يعد السؤال ماذا يفعل “حزب الله” في الجنوب أو في الضاحية أو في البقاع، بل ماذا يفعل في كل لبنان، بكل محافظاته ومدنه وقراه وسهوله وجباله…؟

ولم يعد السؤال، من يملك مزارع شبعا، هل هو لبنان أم سوريا أم هي مجرد “أرض سائبة”، ولماذا يتلهى عنها “حزب الله” وينشغل في المقابل باحتلال القمم بالتزامن مع ما يجري في غزة والضفة الغربية الى جانب ما يجري في سوريا والعراق واليمن…؟

والجواب لا يحتاج الى محللين أو مطلعين أو منظرين أو منجمين، انه بكل بساطة القضم التدريجي لوطن سائب بعدما ساهم “حزب الله” في تفكيك الدولة المهترئة والانتشار خطوة تلو خطوة في مناطق لا تشبهه ولا تواليه ولا تشكل له خزاناً بشرياً أو عاطفياً أو سياسياً أو عقائدياً أو طائفياً ومذهبياً.

وفي معنى آخر، انه “الانقلاب” الذي لا يجرؤ حتى الساعة على المجاهرة به ليس خوفاً من أي تداعيات لبنانية، وليس حرصاً على أي تحالف أو تفاهم، ولا مراعاة للعبة التوازنات، بل لأن القرار الإقليمي والدولي باسقاط لبنان غير وارد حتى الآن على الأقل، ولأن مصير أي “جمهورية اسلامية” في لبنان قد لا يختلف عن مصير الدولة التي حاول ياسر عرفات ادارتها على حدود اسرائيل.

ولا يحتاج المراقبون المحليون والدوليون الى الكثير من الأدلة ليتأكدوا من أن “حزب الله” لا يريد أي حرب مباشرة مع اسرائيل، ولا يسعى اليها معتبراً الحرب هذه المرة مغامرة قد تدمر ما بناه حتى الآن باسم “المقاومة”، وقد لا تؤتي أيضاً النتائج التي يطمح اليها، خصوصاً أنه بات في وضع معزول عربياً واسلامياً ودولياً، وأن الأطراف التي تريد رأسه هي أكثر بكثير من التي تريد بقاءه على قيد الحياة.

وأكثر من ذلك، لا يحتاج هؤلاء المراقبون الى جردة براهين وأدلة كي يدركوا أن حسن نصر الله بات “أكثر تأثيراً” في محور الممانعة من أئمة طهران، وأن “حزب الله” بات أكثر فعالية من “الحرس الثوري” نفسه، وأن الجمهورية الاسلامية في ايران باتت أكثر اعتماداً على الورقة اللبنانية منه على أي ورقة أخرى سواء في فلسطين أو سوريا أو العراق أو اليمن أو حتى في دول أوروبية وأفريقية ولاتينية.

وليس من قبيل المصادفة أن تتحرك جنين ونابلس عبر مقاتلين يتردد أنهم تلقوا تدريبات خاصة في معسكرات “حزب الله” و”الحرس الثوري”، وأن تنطلق قذائف من جنوب لبنان نحو اسرائيل، وأن ينصب “حزب الله” خيمتين في الغجر متجاوزاً لبنان الرسمي في التعاطي مع هذا الملف، في خطوة تهدف في ما يبدو الى تحريك مسألة الحدود البرية على غرار الحدود البحرية، واقفال هذا الملف الذي يهدئ مخاوف اسرائيل ويزيل أي سبب قد يعرقل “المشروع الاسلامي الايراني” في لبنان.

وليس من قبيل المصادفة أيضاً أن تتشدد ايران في موضوع الحدود البحرية مع السعودية والكويت، وأن تتحرش بسفن تجارية في مياه الخليج، وأن ترمي بثقلها خلف روسيا في حربها مع أوكرانيا وخلف الصين في نزاعها مع أميركا على موضوع تايوان. وهي مواقف استدعت اللجوء الى سلاح العقوبات وتحديداً من بريطانيا التي تتهم طهران بمضايقة المعارضين الايرانيين في البلاد، على غرار ما تفعل في فرنسا والسويد وألمانيا وسواها من الدول الأوروبية واللاتينية. والمواقف الايرانية عينها دفعت أميركا الى عدم استبعاد أي خيار في مواجهة البرنامج النووي الايراني، وجعلت المنطقة تقف فجأة على حقل ألغام بعد فترة من الاستقرار الذي أعقب المصالحات السعودية مع كل من ايران وسوريا.

وبعيداً مما يجري في المنطقة على أهميته، يسعى “حزب الله” الى التمدد في كل لبنان سواء عبر مصارفه أو سلاحه أو بيئته أو تحالفاته أو فائض القوة لديه، مستغلاً هجرة المسيحيين من جهة، وتراجع السنة من جهة ثانية، وهواجس الدروز من جهة ثالثة، وحياد الجيش من جهة رابعة، وسقوط الدولة والمؤسسات في كل مكان.

وما جرى في القرنة السوداء أخيراً، ألقى الضوء على مدى تغلغل “حزب الله” عبر “سرايا المقاومة” في المفاصل الجغرافية الأساسية التي يعتبرها اما موقعاً استراتيجياً فاعلاً في الصراع مع اسرائيل والولايات المتحدة، واما موقعاً عسكرياً يشرف به على مناطق حساسة يعتبرها مناطق عاصية لم يتمكن من تطويعها لا بالسياسة ولا بالمال ولا بالتهويل ولا بأي سلاح آخر .

والواقع أن “حزب الله” ما كان ليتمكن من الانتشار في المناطق المسيحية لولا تحالفه مع “التيار الوطني الحر”، ولا الوصول الى تلك المناطق الجرداء والخالية من السكان الا من خلال غياب الردع الرسمي، ومن خلال استغلال الضائقة الاقتصادية الواسعة والخانقة في أوساط السنة الشماليين، ومن خلال شعور اليتم الذي أعقب انكفاء الرئيس سعد الحريري من جهة، وتراجع البندقية الفلسطينية من جهة ثانية، وسقوط أنظمة سنية كانت تشكل توازناً يعتد به مع الحكم العلوي في سوريا المجاورة، ونقصد به النظام العراقي برئاسة صدام حسين.

وهنا لا بد من السؤال، هل كان يمكن لرجال حسن نصر الله أن يتغلغلوا في طرابلس والمنية والضنية وأن يقتربوا من جرود بشري واهدن وعيناتا لولا هذه البيئة السنية التي تحول جزء منها من خصم الى حضن، بعدما هجرتها الدولة وأهملتها القوى الأمنية والقضائية وحولتها الى بيئة شبه عسكرية تتخطى القوانين والمحاكم، وتتجه نحو حرب أهلية وطائفية قد تبدأ في القرنة السوداء وقد لا تنتهي في آخر قرية مسيحية على حدود الدولة العبرية؟

وقد يرى البعض في هذه القراءة بعض المبالغة، لكن السؤال يبقى ماذا يفعل “حزب الله” في جرود القبيات والعاقورة وجبيل وصنين وعيون السيمان؟ وماذا يفعل في الفنار والنبعة والرويسات ولاسا وجرود رأس بعلبك حيث تحول الى خلايا نائمة تنتظر ساعة الصفر للانقضاض على البشر والحجر، تماماً كما حدث في “السابع من أيار”؟ وماذا يفعل في عكار حيث قتل الشيخ السيادي أحمد شعيب الرفاعي على يد عناصر من “سرايا المقاومة” في بلدة القرقف؟ وماذا يفعل في برلمان لا يملك فيه الغالبية التي يحتاج اليها مصراً على انتخاب رئيس من اختياره ولو سقط الهيكل على رؤوس الجميع؟ وماذا يفعل في حكومة بتراء يتحكم فيها بكل شيء بدءاً من رئيسها وانتهاء بآخر حاجب في آخر مؤسسة رسمية في لبنان لولا اعتقاده بأن كل مقومات التحدي المقابلة ليست قادرة أو راغبة في خوض صراع هو أقرب الى الانتحار منه الى الردع والتصدي؟

وليس كلام البطريرك بشارة الراعي خلال جنازة الشهيدين هيثم ومالك طوق قبل أيام، عن “جهات سياسية معروفة ومألوفة” تحرك الوضع الأمني في القرنة السوداء الا واحدة من الاشارات غير المباشرة اما الى “حزب الله” بطريقة غير مباشرة، واما الى خلايا يتولى تمويلها وتدريبها وتوجيهها وتحريكها غب الطلب.

وتقول مصادر قريبة من بلدة بقاعصفرين إن ما جرى في القرنة السوداء لم يكن في يدها، مشيرة الى أن جهات من خارج المنطقة تولت على الأرجح ادارة الملف الساخن وقررت توجيه رسائل نارية الى مدينة بشري التي تمنع أي تواجد غير قانوني في أعلى قمة في لبنان والمنطقة.

وتختم المصادر: ان هذه العناصر المدعومة من بعض أصوليي البلدة، كانت تخطط للاستيلاء على القمة لغابات استراتيجية عسكرية، بعدما تمكنت من ذلك في المناطق لجبلية الممتدة من الجنوب الى الشمال.

وهنا لا بد أخيراً من سؤال بديهي، لماذا التزم محور الممانعة الصمت شبه المطلق حيال ما جرى في القرنة السوداء؟ ولماذا حاولت السلطات الأمنية والطبية بداية أخذ التحقيق الى مكان آخر والتستر على معلومات تحدثت عن معسكرات انتشار وتدريب في المنطقة الساخنة؟

لا جواب حتى الآن، لكن الواضح أن الدولة أدركت أن ما جرى في القرنة السوداء لم يكن مجرد اشتباك عابر بين مزارعين ورعاة ماعز بقدر ما كان اشتباكاً بين عالمين شرسين، عالم يديره “حزب الله” بالواسطة وعبر سلاح يبني “جمهورية اسلامية” وعالم يديره بعض المغالين بسلاح يحمي الجمهورية اللبنانية، لافتة الى أن ما جرى في تلك القمة أيقظ اللبنانيين بكل أطيافهم وأيقظ المعسكر الغربي الذي فتح فجأة ملف القرار ١٥٥٩.

وفي انتظار ما ستؤول اليه أزمة الخيمتين في الغجر وأزمة الحدودين في القرنة، لا يختلف اثنان على أن “المقاومة الاسلامية” غارقة حتى رأسها في كثير من التحديات والمهمات والصراعات والمخططات، متجاهلة الحقيقة التي تقول ان من يكثر من مغامراته اليوم لا بد أن يقع غداً.

شارك المقال