السعودية كرّست “الطائف” مرجعية ومنطلقاً للحل

زياد سامي عيتاني

إتجهت الأنظار خلال اليومين الماضيين إلى الدوحة، التي دعت اللجنة الخماسية الى الاجتماع على أرضها، بعد أسابيع قليلة من جولة الموفد الفرنسي الخاص إلى لبنان جان ايف لودريان، ولقاءاته بالمسؤولين اللبنانيين.

المعروف عن قطر إتقانها ما يسمى “الديبلوماسية الاستباقية”، قبل الإقدام على أي تحرك، ما جعلها على تنسيق كامل مع الرياض حول جدول أعمال الاجتماع، إضافة إلى وحدة الموقف بشأن الأزمة اللبنانية، قبيل إنعقاده.

وفي هذا المجال تجزم مصادر مواكبة، بأن الجانب القطري كان متطابقاً مع الموقف السعودي لجهة عدم المس باتفاق “الطائف” في مواجهة محاولات إدخال تعديلات عليه.

والاتفاق على الانتظار، مرده إلى التخوف من أن يتكرّر سيناريو الاجتماع الخماسي الذي عُقد في 6 شباط الماضي في باريس، التي خالفت حينها الإجماع الدولي عبر تبني مرشح “حزب الله” سليمان فرنجية، ما تسبب بخلافات عميقة بين الدول الخمس.

وما كانت تخشاه كل من الرياض والدوحة من الموقف الفرنسي، سرعان ما اكتُشف من خلال طرح لودريان تسويق طلب “حزب الله” المتمثل في الدعوة الى الحوار للاتفاق على إسم رئيس الجمهورية، خلافاً لا بل نسف لكل القواعد والنصوص الدستورية.

الموقف الفرنسي جوبه برفض صارم وقاطع من الدول العربية المشاركة، لا سيما السعودية، وشددت الدول العربية على أن لا بديل عن التمسك بالدستور وأحكامه التي تنظم العملية الانتخابية، من دون الخضوع لأي شروط مسبقة من شأنها تعريض “الطائف” للخطر، من خلال تحويل الانتخاب الى مجرد غطاء دستوري وسياسي لتعيين مرشح “حزب الله” رئيساً للجمهورية.

إذاً، كان واضحاً أن الموفد الفرنسي كان يتطلع ويأمل أن يحصل على تفويض لاستكمال مهمته المبهمة (!) التي ترتكز على الدعوة الى حوار “مريب” بين الأطراف اللبنانية بشأن المأزق الرئاسي، تلبية لرغبة “حزب الله” وهذا ما لم يحصل عليه، ما يضع مهمته بأكملها أمام المصير المجهول، خصوصاً وأن زيارته الى بيروت لم تفضِ إلى أي نتيجة إيجابية، بدليل أن فرنسا نفسها لم تدعُ اللجنة الخماسية الى الالتئام، بل إنتظرت أن تقوم قطر بالمهمة، بعدما نسقت مع السعودية.

مرة جديدة تسقط الديبلوماسية الفرنسية في شر خياراتها وحساباتها الخاطئة حول الدور والخيار والمراعاة للجانب الايراني، وتفضيل “العقود النفطية” على الدور التاريخي لفرنسا في لبنان!

صحيح أن هذا السقوط للديبلوماسية الفرنسية “الهرمة”، من شأنه أن يؤخر الحلول بشأن لبنان (التي لم تنضج ظروفها الخارجية)، إلا أن ذلك قطع الطريق على “خبث” المسعى الفرنسي الهادف ليس إلى تجاوز الدستور اللبناني وحسب (وهي الدولة العريقة دستورياً)، بل إلى تهيئة الأرضية لاطاحته، تمهيداً للشروع بعقد جديد بين اللبنانيين، من غير الممكن إبرامه، في ظل غياب أي غطاء وإجماع دولي وعربي عليه، ما يضع “ما تبقى من لبنان” أمام خطر وجودي حقيقي.

في المقابل، فإن المملكة العربية السعودية تمكنت مرة جديدة من حماية “إتفاق الطائف” وتحصينه، ليس لأنها عرابته، بل لأنه الملاذ الآمن الذي يحمي لبنان ويحافظ على وحدته وتوازن تركيبته المجتمعية.

من هنا كانت المقاربة السعودية في إجتماع الدوحة، التي تقاطعت مع الموقفين القطري والمصري، تنطلق من التمسك بإتفاق “الطائف” الذي تحول إلى دستور منذ العام 1990 كناظم للعلاقات بين المكونات اللبنانية، إزاء ميل بعض الفرقاء الى تعديله، إما لجهة إعادة النظر في توزيع المناصب الكبرى على الطوائف، أو لجهة إعتماد “الفديرالية” تحت غطاء اللامركزية الادارية الموسعة.

ولا تزال المملكة تدعو أيضاً إلى تطبيق ما لم يطبق منه، لأنه كل لا يتجزأ، حتى تتحقق الغاية الوطنية الشاملة من إقراره، وعندها ستتوافر أجواء الطمأنة والاستقرار عند مختلف المكونات اللبنانية.

أما بشأن مقاربة الرياض للملف الرئاسي، فهي تنطلق من المواصفات السياسية للرئيس العتيد، وتأمل في وصول شخصية تتمتع بإستقلالية، قادرة على إستعادة العلاقات السوية مع دول الخليج، إنسجاماً مع عروبة لبنان، وتبعد مؤسساته عن تأثر المحاور الخارجية.

يتضح من كل ذلك، أن موقف المملكة العربية السعودية بشأن لبنان لا يزال يرتكز على ثوابتها المعروفة، من دون أن يدخل عليها أي تعديل أو تنازل، كما يحاول البعض الترويج له، عقب إنفتاحها على كل من إيران وسوريا، خصوصاً وأنها عبّرت لهما بكل وضوح وتصميم عن تلك الثوابت، غير القابلة للمساومة، على هامش المباحثات التي أفضت إلى الانفراج في العلاقات معهما.

ثبات الموقف السعودي تجاه لبنان، يشكل الضمانة والحماية له، في ظل تمادي الجنون والانتحار السياسي الداخلي، والتعارضات الخارجية تجاهه، ما يتطلب من الفرقاء اللبنانيين تلقف حقيقة الموقف السعودي، الذي يرتكز على أن الوضع اللبناني يحتاج إلى تلاقٍ بين اللبنانيين، قبل أي تلاقٍ بين دول إقليمية نافذة، إذا كانوا فعلاً جديين في الخروج من أزمتهم.

وهذا لا يمكن أن يتحقق إلا بالعودة إلى جوهر إتفاق “الطائف” وفلسفته ونصوصه كمرجعية ومنطلق لأي حلّ.

شارك المقال