“الصفعة” التي دوَّت في الضاحية!

أنطوني جعجع

ما حصل بين وئام وهاب وسيمون أبو فاضل ليس مجرد “اشتباك” طارئ أو عابر بمقدار ما هو ترجمة لحال التشنج التي تعم البلاد على كل المستويات النفسية والحياتية والسياسية والوطنية، وعبوة معدة للانفجار في أي لحظة وفي أي مكان.

لقد كان وهاب من حيث شاء أو أبى ممثلاً لفائض القوة المستوحى من سلاح “حزب الله”، وكان أبو فاضل ممثلاً لفائض الاحتقان المستوحى من البيئة السيادية التي تتأرجح بين النزعة الى القتال في مكان والاقرار بالعجز في مكان آخر.

وأكثر من ذلك، يذهب البعض بعيداً الى حد رسم صورة مصغرة عما حدث في القرنة السوداء قبل أسبوعين، أي صورة من يستقوي بقوى الممانعة لتجاوز أحكام القضاء أو استباقها، وفرض واقع جغرافي وأمني قسري في منطقة استراتيجية حساسة، ومن يعتبر أن الفوقية التي تمارسها هذه القوى قد بلغت حداً لا يحتمل السكوت في مكان ولا الحرب الأهلية في مكان آخر.

وقد يرى البعض في هذه المعادلة الكثير من التخيلات والأوهام، لكن يكفي التمعن في الواقع اللبناني بعد “حرب تموز” في العام ٢٠٠٦ ليكتشف أن “لبنان المساواة” يتحول تدريجاً الى لبنان القرار الواحد، وأن “لبنان الانفتاح” يتحول الى لبنان التقليد الواحد، وأن “لبنان التنوع” يتحول الى لبنان الوجه الواحد، وأن “لبنان الاعتدال” يتحول الى لبنان الديَّان الواحد، وأن لبنان الحوار يتحول الى لبنان الرأي الواحد.

وأكثر من ذلك أيضاً، ألقى ما حدث في ذاك الاستديو الصغير، الضوء على أمر آخر في الاستديو الكبير، وهو موقع الجيش ودوره وخياراته وقراراته التي تتبع في معظم الأحيان استراتيجية لا تختلف عن استراتيجية “حزب الله”، أي الاستراتيجية التي تعادي من يعاديه وتتعرض لمن يتحداه، وتتحاشى أي صدام معه أو حتى أي منافسة من أي نوع.

وليس ما حدث خارج الاستديو، عندما تراجع الجيش أمام تحديات وهاب وأنصاره، الا أنموذجاً عن أداء يراعي حساسيات “حزب الله” وحلفائه، ويضرب كل الخطوط الحمر التي تتعلق بأي فريق لا يكون جزءاً من “دويلة الممانعة” أو يكون مشروع تصدٍ لأي خيار أحادي تتخذه سواء في انتشارها الداخلي أو تحدياتها ومغامراتها الخارجية.

ولا يبدو “حزب الله” منزعجاً من “فوقيات” حلفائه، معتبراً ما يفعله هؤلاء عملاً من أعمال “المقاومة” أو جزءاً من الحرب الاعلامية التهويلية، أو ترجمة لحجم التأييد الشعبي الذي يلقاه في مواجهة القرار ١٥٥٩ والعقوبات الدولية، أو انفلاشاً توسعياً “طبيعياً” في مناطق لا تشبهه، أو على الأقل تذكيراً مباشراً أو غير مباشر بما جرى في “السابع من أيار”، ومزيداً من الفوضى التي يريدها في اطار ترهيب المعارضة وتحجيمها وتشتيتها وتخييرها بين ما يخدم مشروعه العقائدي وبين تدمير لبنان على رؤوس الجميع، تماماً كما فعل مع القاضي طارق البيطار بعد تفجير بيروت، وتماماً كما فعل بشار الأسد خلال لقائه التحذيري والفوقي العاصف مع الرئيس رفيق الحريري قبل أيام من اغتياله.

وتكشف مصادر قريبة من الضاحية الجنوبية، أن حسن نصر الله لم يهضم الصفعة التي تلقاها وئام وهاب على الملأ، معتبراً اياها انتقاصاً من كرامة حليف موثوق، وتحدياً للستار الحديدي الذي وضعه حول حلفائه، على الرغم من الرد العنيف الذي تلقاه الزميل أبو فاضل داخل الاستديو وخارجه.

وتضيف المصادر: ان محللي “حزب الله” حذروا من يعنيهم الأمر من التعامل مع ما جرى على أنه أمر عابر، لافتين الى أن ما أصاب وهاب يكاد يوازي من الناحية النفسية والاعلامية ما أصاب النائب قاسم هاشم عند الحدود مع اسرائيل قبل أيام.

وقد يسأل سائل، كيف يمكن التساوي بين صفعة يتلقاها حليف من مدني أعزل وقنبلة دخانية يتلقاها حليف آخر من عدو مسلح؟ والجواب حسب الأجواء التي ارتسمت في معاقل “المقاومة الاسلامية”، أن “حزب الله” لا يفرّق بين ضربة تأتيه من اسرائيل أو أخرى تأتيه من لبنان، مشيرة الى أن “حزب الله” لا يقبل أن يهان حليف له يغزو الشاشات دفاعاً عن سلاحه وخياراته العقائدية والاستراتيجية حتى لو جاءت تلك الضربة من “أهل البيت”.

والواقع أن هناك الكثير من الصحة في تلك الأجواء الحانقة، خصوصاً أن ما جرى جاء بعد تحديات ومعاكسات أظهرها جبران باسيل الحليف المسيحي الأبرز، في وجه حسن نصر الله قاطعاً عليه الطريق التي توصل مرشحه سليمان فرنجية الى قصر بعبدا.

وقد يقول قائل أيضاً: ان ما جرى في استديو الـ “ام تي في” ليس أمراً جديداً أو غريباً أو نادراً، وأن سيمون أبو فاضل لم يتحول الى “فاتح” أو “محرر”، ولا يستأهل بالتالي كل هذه الضوضاء والتعليقات والهتافات والاشادات، مشيراً الى أنه يمكن أن يمر كما مرت أمور أكثر خطراً وأكثر احراجاً، والجواب أن أهمية ما جرى تكمن في عملية التوقيت، أي في الوقت الذي يضغط “حزب الله” في كل الاتجاهات وبكل الوسائل المتاحة لابقاء المعارضة في حال الخوف والفراغ، محاولاً أن يكرر تجربة ميشال عون، أي اما الوصول الى رئيس من “مطبخنا” واما لا رئيس لأحد .

والواقع أن ما جرى في القرنة السوداء، وما يجري في كل القمم الأخرى، وما يجري على الحدود مع اسرائيل، يدخل في اطار هذه الضغوط التي تصوّب على ثلاثة أمور أساسية: الأول الحصول على الترسيم البري تحت ضغط القوة كما حدث في عملية الترسيم البحري، ومنح السلاح مبرراً آخر ومهمة أخرى. والثاني التلويح بفتح الجبهة اللبنانية وربما الفلسطينية والسورية في حال تعرضت الولايات المتحدة للبحرية الايرانية التي تضايق وتخطف سفناً تجارية تعبر مضيق هرمز. والثالث افهام المعارضة أن يدها قادرة على الوصول الى أي مكان على مستوى الخريطة اللبنانية.

ولا يأتي هذا الضغط من عدم في وقت حركت أميركا مدمرات وطائرات من طراز “اف ٣٥” و”اف ١٦” اضافة الى آلاف من جنود “المارينز” لضمان سلامة المرور البحري من اعتداءات ايران واستفزازتها، وربما تحسباً في مكان آخر للجبهة التي تحاول روسيا تشكيلها في وجه الأميركيين في سوريا، وهي الجبهة التي تلقى تأييداً من “الحرس الثوري” و”حزب الله” اللذين تحولا الى ما يشبه “قوات فاغنر” والقوات الشيشانية التي تقاتل الى جانب روسيا في أوكرانيا.

وانطلاقاً من هذا المشهد الواسع والمتشعب والمتداخل، تبدو صفعة وئام وهاب في الشكل، أمراً عادياً لا يستأهل التوقف عنده، لكن ذلك يختلف في حسابات “حزب الله” التي لا تميز بين الصفعة والقنبلة عندما يتعلق الأمر بهيبة حسن نصر الله وسطوة رجاله.

وأخيراً، لا بد من سؤال بديهي: هل كان أبو فاضل ليتجرأ على التعرض لحليف ممانع مدجج بالرجال والسلاح، لو أن “حزب الله” لم يصل في جبروته وفوقيته وتحدياته الى كشف الستار عن غضب شعبي مكبوت لا أحد يعرف هل تفجره رصاصة كما في القرنة السوداء أم تفجره صفعة متلفزة كادت تقول ان الوقت حان للفصل بين ما يشبه زواجاً بالقوة، وتعايشاً ينشد العيش في سلام؟

أمر واحد خرج به اللبنانيون من ذاك الاستديو وهو أن وئام وهاب تلقى ما لم يكن يتوقعه أمام ملايين المشاهدين سواء غالباً أو مغلوباً، وأن قوى الممانعة تلقت إنذاراً أولياً بأن هذا الشعب المخنوق بين الضاحية ودمشق والممسوك من بيروت الى طهران، لا يزال خارج الهلال الفارسي ولو اضطر الى المقاومة بالأيدي العارية.

شارك المقال