أمام تخاذل القضاء اللبناني… هل يدوّل تحقيق تفجير بيروت؟

زياد سامي عيتاني

بعد وقت قصير من الانفجار المدمر في 4 آب 2020 الذي قضى على مرفأ بيروت والمناطق المتاخمة له، مخلفاً آلاف الضحاياً ودماراً شاملاً، أصدر 37 خبيراً من خبراء حقوق الانسان التابعين للأمم المتحدة، بياناً مشتركاً دعوا فيه الحكومة والمجتمع الدولي إلى الاستجابة بفاعلية لدعوات تحقيق العدالة والتعويض.

وبدلاً من ذلك، وفقاً للخبراء، منعت السلطة الساسية المتورط بعضها في التفجير الهائل الذي هو أقرب إلى تفجير نووي بمفاعيله التخريبية والتحطيمية، عملية التحقيق اللبنانية، مسلطين الضوء على المشكلات المنهجية للحكم المتهاون والفساد المستشري. وكأن هؤلاء الخبراء كانوا على يقين مسبق بأن الطغمة الحاكمة في لبنان ستحول دون أخذ المسار القضائي اللبناني طريقه نحو إستكمال التحقيق، وفقاً للأسس والقواعد الفنية والقانونية في أكبر تفجير في العصر الحديث بعد هيروشيما!

بحسب التقويم السريع للأضرار والاحتياجات الذي أجرته حينها مجموعة البنك الدولي، بالتعاون مع الأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي، فإن الإنفجار ألحق أضراراً بالأصول المادية تراوحت قيمتها بين 3.8 إلى 4.6 مليارات دولار، في حين قدرت الخسائر، متضمنة التغيرات في التدفقات الاقتصادية نتيجة انخفاض ناتج القطاعات الاقتصادية، بما يتراوح بين 2.9 إلى 3.5 مليارات دولار.

وكانت أكثر القطاعات تضرراً هي الاسكان والنقل والموجودات الثقافية الملموسة وغير الملموسة، بما في ذلك المواقع الدينية والأثرية والمعالم الوطنية والمسارح ودور المحفوظات والمكتبات والآثار.

كما قدر التقويم إحتياجات إعادة إعمار القطاع العام وتعافيه، بما يتراوح بين 1.8 إلى 2.2 مليار دولار، وأوصي أيضاً بإعادة بناء المرفأ بطريقة شاملة وحديثة وبمستوى أفضل من حيث الموقع والحجم، وإدارته وفقاً لممارسات عالية الكفاءة والشفافية.

كذلك، أوصي باتباع نهج “إعادة البناء على نحو أفضل” ضمن إطار من الاصلاح والتعافي وإعادة الإعمار، بما يراعي أولوية إحتياجات الشعب، وخصوصاً الفقراء والأكثر ضعفاً، إلى جانب الاصلاحات الهيكلية المعنية باستقرار الاقتصاد الكلي وإدارة الحكم وبيئة تشغيل القطاع الخاص وضمان الأمن البشري.

وعلى الرغم من مضي ثلاث سنوات على إنفجار “الابادة” بحق بيروت ومرفئها ومناطقها ومؤسساتها وقاطنيها، وسط التمييع والتضليل الممنهجين لإجهاض التحقيقات، فإن أهالي الضحايا والمتضررين، الذين فقدوا الثقة بصورة مطلقة بالقضاء اللبناني، لم يوفروا فرصة أو مناسبة لمناشدة المجتمع الدولي ومطالبته بإجراء تحقيق مستقل، تحت إشراف مجلس حقوق الإنسان، أملاً في أن يمنحهم هذا التحقيق، الذي يجريه هذا النظام متعدد الأطراف، الاجابات التي فشلت السلطات اللبنانية في تقديمها لهم.

فالسلطات اللبنانية “المجرمة” التي أخفقت، لا بل تعمدت بصورة مأساوية في حماية أرواح شعبها، من جراء تغاضيها عما كان يحتويه العنبر رقم 12 من مواد تفجيرية خطيرة، من غير الممكن إلا إتهامها وأجهزتها المختلفة بالمشاركة الفعلية في جريمة العصر، من خلال قيامها بتسهيل دخول تلك المواد وخروجها، وكأنها الحارس الأمين، لمن كان يستوردها ويخزنها ويستخدمها!

لذلك، هكذا سلطة جرمية، لم يكن ينتظر منها، أن تسمح للقضاء اللبناني المسيّس والمرهون لها وظيفياً، بأن يمضي في عمله، وصولاً الى كشف كل الحقائق المتعلقة بتلك الجريمة. وهذا ما أظهرته السلطة من دون أي خجل وطني وأخلاقي وإنساني، بوقوفها سداً منيعاً في وجه مواطنيها، خصوصاً أهالي الضحايا والمتضررون، في “كفاحهم” من أجل تحقيق العدالة.

بناءً على كل ذلك، وبينما تواصل السلطات اللبنانية الامعان في عرقلة المسار القضائي بتواطؤ مع القضاء المحلي بكل وقاحة، فإن إجراء تحقيق دولي هو السبيل الوحيد للمضي قدماً لضمان تحقيق العدالة، وكشف كل المتورطين بصورة مباشرة أو غير مباشرة في تدمير بيروت وترميدها وإبادة شعبها.

وفي هذا السياق، فان الأمانة والموضوعية تقتضيان التذكير بأن الرئيس سعد الحريري كان الوحيد آنذاك الذي رفع الصوت عالياً مطالباً بتحقيق دولي شفاف في انفجار مرفأ بيروت، وداعياً إلى تحرير العدالة من المبارزات السياسية والاستثمار السياسي.

ورأى أن “للعدالة قاعدتين، لجنة تحقيق دولية تضع يدها على الملف وساحة الجريمة، أو تعليق القيود التي ينص عليها الدستور والقوانين وما ينشأ عنها من محاكم خاصة توزع الصلاحية والأحكام في الجريمة الواحدة”.

وأمام تخاذل الدولة وتقاعسها طيلة عام كامل من تاريخ الجريمة، تعالت الأصوات بعد عام مطالبة بتحقيق دولي.

يذكر في هذا الاطار أن أول طلب للتحقيق الدولي رفعه في حزيران 2021 تحالف لأكثر من 100 منظمة لبنانية ودولية، لكنه لم يفضِ إلى نتيجة، وذلك عندما قرر أهالي ضحايا الانفجار عدم الاستكانة لمصيرهم المؤلم، إزاء التقاعس الوقح من السلطة السياسية والقضاء المرهون لها، في إجراء تحقيقات جدية، ترتقي إلى الحجم الكارثي المدمر للإنفجار المزلزل، لا بل على العكس فإن تلك السلطة ومعها الأجهزة القضائية لم يوفروا فرصة لعرقلة التحقيقات المحلية وإفشالها وإجهاضها، لطمس الحقيقة وإبقاء جميع المتورطين خارج قوس العدالة.

إزاء هذا التفريط والتلكؤ المتعمدين، قامت منظمات لبنانية ودولية، بمناشدة أعضاء مجلس حقوق الانسان التابع للأمم المتحدة إرسال بعثة مستقلة لتقصي الحقائق في الإنفجار لتحدد أسبابه ومسؤولية الدولة والأفراد وتدعم تحقيق العدالة للضحايا.

ووثقت تلك المتظمات مجموعة من العيوب الإجرائية والمنهجية في التحقيق المحلي، بما في ذلك التدخل السياسي الصارخ، وحصانة مسؤولين سياسيين رفيعي المستوى، وعدم إحترام معايير المحاكمة العادلة، وإنتهاكات الاجراءات القانونية الواجبة. وبقيت الأصوات مرتفعة بضرورة أن يتدخل المجتمع الدولي لوضع يد الأمم المتحدة قضائياً على ملف تفجير مرفأ بيروت.

والحدث الأبرز في هذا الاتجاه، برز منذ بضعة أشهر عن مجلس حقوق الانسان التابع للأمم المتحدة، الذي يمكن أن يؤسس لتبني الأمم المتحدة قراراً يفضي الى تدويل التحقيق. فقد وقعت 38 دولة في شهر آذار الماضي على بيان مشترك في الدورة الـ52 لمجلس حقوق الانسان، أعربت فيه “عن قلقها إزاء تأخر لبنان في التحقيق بانفجار بيروت”، وحثت السلطات اللبنانية على “التقيد بالتزاماتها الدولية في مجال حقوق الانسان من خلال اتخاذ جميع التدابير اللازمة لحماية الاستقلال والنزاهة الكاملين للقضاء اللبناني في القانون والممارسة”.

ومن المعروف أن الدول الـ38 التي وقعت على البيان تتابع عن كثب قضية التحقيقات، بحيث من المرجح في حال لم تثبت السلطات اللبنانية جديتها في العمل على كشف ملابسات الجريمة، أن يجتمع مجلس حقوق الانسان مجدداً، لرفع توصية الى الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش تحثه فيها على تشكيل لجنة تقصي حقائق دولية. وعندها يمكن للأمين العام تحويل التوصية إلى مجلس الأمن لاتخاذ ما يراه مناسباً في هذا الصدد.

مع حلول الذكرى الثالثة للكارثة المأساوية، وإصرار السلطة السياسية الغارقة في أزماتها، على القفز فوق أم الجرائم، وكأنها حادث عابر، هل يتحمل المجتمع الدولي مسؤوليته، ويبادر إلى التحرك في أروقة الأمم المتحدة، بهدف بلورة قرار أممي بإطلاق تحقيق دولي، إلتزاماً بضمان العدالة في إنفجار بيروت – البركان، أم أن السياسات والمصالح الدولية، ستكون نسخة أجنبية عن السياسات والمصالح اللبنانية، فيسقط لبنان مجدداً ضحية في ملعب اللاعبين الكبار؟

شارك المقال