السعوديون يغادرون… ماذا أقلق الرياض؟

أنطوني جعجع

فجأة ومن دون مقدمات، تحول صيف لبنان الى ما يشبه “فصلاً ملعوناً” دفع السعودية والكويت والبحرين والامارات ودول خليجية اخرى، الى دعوة رعاياها اما الى المغادرة سريعا واما الى الحذر في تنقلاتهم وتحركاتهم في بعض المناطق اللبنانية الحساسة.

وهكذا ومن دون ايضاحات او تلميحات عاد لبنان الى “مكان غير آمن” او “غير مستحب” على الأقل للرعايا العرب بعد اشهر قليلة على مصالحات واعدة بين السعودية وكل من ايران وسوريا تبعتها مصالحات وانفتاحات اخرى مباشرة وغير مباشرة بين “الممانعين” ودول عربية تتقدمها مصر والاردن والعراق.

السبب العلني الوحيد لهذه الخطوات كانت الحرب الشرسة التي شهدها مخيم عين الحلوة في صيدا، وهو سبب لم يقنع بعض المراقبين لثلاثة اسباب رئيسة برأيهم، الاول ان الانتشار الخليجي لا يشمل في معظمه مناطق الجنوب بل يركز على بيروت وجبل لبنان وبعض مناطق الشمال، خصوصا بعد خطف المواطن السعودي على طريق المطار مع بداية الصيف الحالي، علما أن المعلومات تؤكد وجود سعوديين من امهات فلسطينيات في مناطق قريبة. والثاني أن لا شيء في الظاهر كان يشير الى احتمال انتقال الحرب الفلسطينية في الجنوب الى المخيمات الاخرى، بعدما تمكن الجيش اللبناني بتنسيق مع الفاعليات الفلسطينية من اتخاذ اجراءات سريعة وجذرية منعت عمليات الحشد والتعبئة والدعم والتواصل بين مخيم وآخر ردا على اغتيال قائد قوات الامن في عملية اعتبرت مؤشرا خطيرا ومتفجرا ذا ابعاد محلية واقليمية، فيما كان هناك تخوف لدى اخرين من اتساع رقعة الاشتباكات، وثالثا الوجود السعودي النادر على الاراضي اللبنانية، والمقتصر على بضع مئات منهم من عاملين وطلاب وحاملي جنسيات.

اذاً لا بد من السؤال: ماذا اقلق السعوديين وبعض الخليجيين في شكل جماعي، ودفع الى بسط جو من القلق والتشنج على ما بقي من الصيف الزاهر الذي لم يشهد لبنان نظيرا له منذ سنوات؟

السؤال الأهم الذي يطرح نفسه، يتمثل ليس بما فعله الخليجيون بل مما يفعله “باطنيون” منذ العام ٢٠٠٥ كلما لاحظوا او عايشوا امرا يمكن ان يضخ اموالا تسهم في نهضة الاقتصاد وتحسين ظروف العيش لدى فئات واسعة من اللبنانيين، الأمر الذي يلجم الضائقة المالية التي قد تفرمل “الهجرة شبه الجماعية” من جهة، وبيع الاراضي والممتلكات من جهة اخرى، او يمكن ان يضفي طابعا حياتيا، هو اقرب الى الطابع الغربي، على وطن يحاولون بكل الطرق تغيير هويته وتقاليده وثقافته وحتى تاريخه.

ويكشف مصدر قريب من قوى الممانعة، ان خطف المواطن السعودي قبل اشهر كان المحاولة التخريبية الاولى، ثم نصب خيمتين على حدود الغجر كان المحاولة الثانية، ثم تفجير خلاف طائفي خطير في القرنة السوداء كان المحاولة الثالثة، ثم تفجير “حرب الأخوة” في عين الحلوة كان المحاولة الرابعة، وهي محاولات تلقفها السعوديون بقلق وادركوا من خلالها ان ثمة أمرا يحاك في لبنان. ويبدو وفق المراقبين أن هذه التطورات لم تعد تتماهى مع جو المصالحات والتفاهمات التي تمت بين الرياض وكل من طهران ودمشق ولا مع القرارات التي صدرت عن اللجنة الخماسية في العاصمة السعودية أخيرا، فيما رأي اخر يؤكد عدم ارتباط الملفات ببعضها تجاه لبنان.

ولا يمكن صرف النظر عن الخلاف الحدودي القديم – الجديد الذي اطل برأسه بين ايران وكل من السعودية والكويت، وعودة المناوشات العسكرية الى اليمن ، والأهم من كل ذلك بروز النشاط السعودي في بيروت من خلال الاصرار على حماية “اتفاق الطائف”، محبطا بذلك المساعي الخفية والعلنية التي كان يبذلها الثنائي الشيعي للتوصل الى معادلة خبيثة: أي “الرئيس في مقابل نظام جديد”.

لكن مصدرا قريبا من المعارضة، يكشف ما هو ابعد من ذلك، مشيرا الى ان هناك معلومات وصلت لدول عربية عن احتمال قيام إسرائيل بقصف خيمتي “حزب الله” في الجنوب وتفجير حرب بين الطرفين قد لا توفر منطقة في لبنان، ومعلومات اخرى عن وجود خطة لضرب حركة “فتح” في المخيمات الفلسطينية لمصلحة “حماس” والمنظمات الأصولية، في محاولة لتحويل لبنان، في المناطق المحسوبة على قوى الممانعة الى جبهة عسكرية متماسكة لا مكان فيها لأي قوة عسكرية لا تأتمر بأوامر “حزب الله” ولا تتلقى تعليماتها من ايران..

وأضاف ان قوى الممانعة لا يمكن ان تتعايش مع أي قوة مسلحة غير موالية، تماما كما ترفض وجود اي قوة مسلحة تتحول يوما الى عائق امام قيام “الجمهورية الاسلامية” العتيدة.

وفي سؤال لمقربين من قوى الممانعة عما يقف وراء القرار السعودي، نفوا علمهم بوجود اي اسباب واضحة تدفع الرياض الى اخلاء لبنان من مواطنيها مبدين بعض الاستغراب من هذه الخطوة، في حين لفت مقرب من قوى المعارضة الى ان ذلك لم يأت من عدم، مشيرا الى ان السعوديين لا يمكن ان يقدموا على خطوة من هذا النوع ما لم يكن في ايديهم من المخاوف ما لم يقع في ايدي سواهم.

وثمة أمر آخر يضاف الى النفور الخليجي، وهو نسبة “الغباء” الذي يتمع به عدد من السياسيين اللبنانيين وفي مقدم ذلك “شخطة القلم” التي اطلقها وزير الاقتصاد امين سلام في وجه الكويت، لينضم بذلك الى الهفوات الدبلوماسية والأدبية التي ابداها وزير الاعلام السابق جورج قرداحي ووزيرا الخارجية السابق شربل وهبة والحالي عبدالله بو حبيب حيال السعودية ودورها وموقعها في المنطقة.

وحيال هذا المشهد، لا بد من السؤال من على حق في تحليلاته وربما معلوماته، ومن على خطأ؟ وماذا ينتظر لبنان من اليوم وحتى ايلول لحظة يكتشف العالم ماذا يحوي البلوك التاسع في البحر الجنوبي.

وحيال هذا المشهد ايضا، لا بد من سؤال جوهري، هل نحن امام صدام حتمي بين اسرائيل وكل من “حزب الله” وايران في وقت يتردد في تل ابيب ان الحرب مع لبنان باتت امرا شبه حتمي؟ وهل تملصت ايران من بنود المصالحة مع الرياض بعدما تأكدت من ان ثمنها اغلى بكثير من مكاسبها؟ وهل عجز الرئيس السوري بشار الأسد عن تلبية مطالب الرياض، وترك الأمر لعرابه الايراني المتحكم بمعظم المفاصل السياسية والأمنية في دمشق وحدودها مع لبنان والاردن والعراق وفلسطين؟ وهل ادركت ايران ان لا شيء يوازي ترتيب تفاهم مع الولايات المتحدة التي تضيق الخناق عليها وتمنعها من النهوض كدولة اقليمية عظمى في الشرق الاوسط؟ وهل ادركت أيضا ان هذه المصالحات لن تمنع الصدام المحتمل مع الجيش الأميركي في مياه الخليج، ولا مع الآلة العسكرية الاسرائيلية المتأهبة، فقررت العودة الى سياسة التوتير والضرب في كل الاتجاهات تحت شعار “علي وعلى أعدائي”؟

لكن ثمة امر آخر ربما يقف وراء القرار السعودي، وهو الخوف من عمليات عنف وترهيب تطاول السعوديين افرادا ومصالح بعد تسرب تقارير اميركية واسرائيلية تتحدث عن جهود تبذل لترتيب “تطبيع تمهيدي” بين تل ابيب والرياض قد ينضم الى الستار الذي يطوق ايران انطلاقا من البحرين والامارات وربما الكويت وسلطنة عمان، وصولا الى المغرب الذي يعاني تدخلا من ايران و”حزب الله” في الصحراء الغربية المتنازع عليها مع “جبهة البوليساريو”. علما ان السعودية اكدت ان لا تطبيع الا بعد الالتزام بالمبادرة العربية التي خرجت من مؤتمر بيروت.

أسئلة كثيرة مرفقة بكثير من التحليلات، لكن الاجابات الناجعة تبقى رهن الآتي من الايام، وهي ايام يجمع المراقبون على انها ايام تفجيرية قد تتحول الى حرب غير تقليدية اذا لم تدرك القوى العظمى ان اللعب بالنار لن يقتصر هذه المرة على قنبلة نووية واحدة او هدف واحد او ضحية واحدة، واذا لم تدرك ايران في مكان آخر ان ما تفعله على مستوى المنطقة يشبه الى حد كبير ما فعله ياسر عرفات في مرحلة من المراحل قبل ان يتكتل العالم ضده وينقله من حيثية عربية وثورية يعتد بها الى مجرد حاكم صوري في رام الله.

شارك المقال