الكويت بنت إهراءات بيروت لتكون من الأوائل في الشرق

زياد سامي عيتاني

إهراءات القمح، التي كانت ترتفع شامخة شاهقة في قلب مرفأ بيروت، قبل تفجير العنبر رقم 13 الذي كان مخزناً بمادة “نيترات الأمونيوم”، وتسبب بتدمير مزلزل للمرفأ والمناطق المحيطة به، حمت نسبياً أجزاء كبيرة من العاصمة وأهلها من الزلزال المدمّر، إذ إن خرسانية الصوامع المكوّنة من الاسمنت المسلح قاومت الانفجار ووجهته بغالبية عصفه التدميري نحو البحر، ما ساهم في خفض حجم الأضرار إلى حدّ كبير، على الرغم من فداحة ما حلّ بالعديد من الأحياء البيروتية التراثية المجاورة للمرفأ.

ومنذ ذلك الحين، باتت هذه الاهراءات المتصدعة تتمتع برمزية ولو مؤلمة، كونها حمت أجزاء واسعة من مدينة بيروت من جهة، ومن جهة أخرى ظلت شاهدة شهيدة على جريمة العصر.

وهذه الرمزية دفعت السلطات المختصة، الى إصدار قرار بإدخال مبنى صوامع الحبوب المدمّرة جزئياً، ضمن لائحة “الأبنية التاريخية” المحميّة، ومنع هدمها أو تنفيذ أيّ أعمال فيها من دون موافقة مسبقة.

صحيح أن تاريخ هذه الصوامع يعود إلى العهد العثماني، إلا أن تحويلها إلى صرح عملاق في منتصف ستينيات القرن الماضي، يعود الفضل فيه إلى دولة الكويت التي تكفلت بتمويل الانشاءات الجديدة، من خلال هبة قدمتها للبنان، لذلك، فإن الدولة اللبنانية وشعبها مدينان للكويت بتشييد هذه المنشأة الحيوية التي كانت تشكل جزءاً لا يتجزأ من نشاط مرفأ بيروت، الذي هو شريان حيوي أساس للإقتصاد الوطني.

وبسبب “شخطة قلم” الوزير أمين سلام، التي قوبلت بإستياء كبير من القيادة الكويتية، وكذلك من اللبنانيين الحريصين على أمتن العلاقات الأخوية التي تربط الدولتين والشعبين، نستعرض تاريخ هذا الصرح البيروتي العريق ذي المواصفات الهندسية والمعمارية المميزة، للاضاءة على المكرمة الكويتية في تشييده.

قدم صوامع القمح في ميناء بيروت:

إعتمد مرفأ بيروت منذ زمن بعيد لتفريغ القمح وتخزينه، على غرار معظم الدول التي تستورد قمحها، اذ لا بدّ من وجود هذه الصوامع في الميناء، كي تكون قريبة المناولة من السفن الناقلة، بسرعة وعملانية وبكلفة زهيدة.

وبخلاف المعلومات المُتعلّقة بتدشين صوامع الحبوب في المرفأ أواخر ستينيات القرن الماضي، فإنّ بعض الدراسات التاريخية تشير إلى أنّ مخازن القمح بُنيت في أواخر القرن التاسع عشر، إبّان تطوير المرفأ في عهد السلطة العثمانية، ولكن ليس على شاكلة الصرح العملاق الذي لا يزال صامداً وشاهداً على جريمة تفجير بيروت.

حينها كانت تتمّ عبر مخازن خشبية، ما كان يسبب تلف المواد المخزنة لارتفاع نسبة الرطوبة عند مستوى الشاطئ وفي المدينة، كما أنّه يُعرّضها لإمكان دخول القوارض والحشرات والفتك بالحبوب المخزنة.

الاهراءات الحديثة:

يعود بناء هذه الاهراءات إلى أواخر ستينيات القرن الماضي، ففي عهد الرئيس شارل حلو، اتّخذت الحكومة في العام 1965 قرار بناء صوامع لتخزين القمح في المرفأ، وأُوكلت مهام البناء الى شركة تشيكية إستمرت في المشروع لمدة خمس سنوات، وشاركت في التصميم والتنفيذ أيادٍ لبنانية من ناحية التخطيط والهندسة والتسليح، فيما كان التمويل عبر هبة قدّمتها دولة الكويت الشقيقة في عهد أميرها المغفور له آنذاك الشيخ صباح السالم الصباح، لتفتتح هذه الاهراءات في العام 1970، بحضور أمير الكويت شخصياً.

وبالوثائق يشير القسم 3 المختص بالمشاريع قيد البحث، ضمن العدد السادس من التقارير السنوية للصندوق الكويتي للتنمية الاقتصادية العربية، والمؤرخ بتاريخ 1967 – 1968، يمكن رصد “مشروع إنشاء صوامع للحبوب في مرفأ بيروت”.

ويذكر الصندوق في تقريره أن لبنان “لا يمتلك صوامع حديثة لتخزين الحبوب وتيسير تفريغها، ما دفع الحكومة آنذاك الى التفكير في مشروع إنشاء الصوامع، ضمن أعمال أخرى خاصة بتدعيم المرفأ وتوسيع إمكاناته”.

وحدد التقرير أن سعة الصوامع المُزمع تشييدها تصل إلى 105 آلاف طن، بتكلفة إجمالية تصل إلى 2.25 مليون دينار كويتي، 50% منها بالنقد الأجنبي، لتصبح من أوائل الصوامع في شرق البحر المتوسط، ما يسهم في تشجيع تجارة الحبوب عبر لبنان.

حجم الاهراءات وقدرتها الاستيعابية:

كانت الاهراءات قبل تفجير المرفأ تمتاز بقدرة إستيعابية عالية، إذ تتسع لحوالي 120 ألف طن من القمح والحبوب، كما يتمتّع هيكلها إجمالاً بصلابة عالية نتيجة لمتانة بنائه، وللقواعد والأساسات الضخمة المدعّمة بالحديد والاسمنت المسلح، كما يوجد أسفل المبنى أروقة مدعّمة بالاسمنت المسلّح أيضاً ، تمّ إنشاؤها أيام الحرب الأهلية في العام 1975، بهدف إختباء الموظفين في داخلها هرباً من القذائف التي كانت تطال المرفأ في بعض جولات الحرب المشؤومة.

وتضمّ الاهراءات 48 مخزناً كبيراً، يستوعب كلّ منها 2500 طن، وكذلك تضمّ 50 مخزناً صغيراً يستوعب كلّ منها حوالي 600 طن، وهي تخزّن ما نسبته 85% من حبوب لبنان وقمحه.

الكويت وإعادة الاعمار:

أعلن “الصندوق الكويتي للتنمية الاقتصادية العربية” إستعداده لتقديم الدعم لمواجهة تداعيات انفجار مرفأ بيروت عبر التزامات مُسبقة يعاد تخصيصها لمصلحة لبنان بقيمة 30 مليون دولار.

ونقلت وكالة الأنباء الكويتية “كونا” عن المدير العام للصندوق عبد الوهاب البدر، تأكيده أن “هناك اتصالات جارية مع المسؤولين في لبنان لوضع آلية تأخذ في الاعتبار حاجة الشعب الى المشاريع ذات الأهمية وسيتخذ القرار المناسب لأي مشروع له الأولوية ومن بينها صوامع الغلال”، كما ستتم إعادة النظر في مشروع محطة التحويل الأساسية الكهربائية في بيروت التي تضررت من الانفجار.

إزاء مبادرة الكويت الكريمة باستعدادها لإعادة بناء الصوامع، في وقت لا تزال الدولة اللبنانية متقاعسة عن الشروع بصورة عملية في إعادة إعمار مرفأ بيروت، (وسط مخاوف جدية من وجود نية مبيتة بإحداث تغيير جذري في مساحة المرفأ ووظيفته، وضم مساحات سياحية وإستثمارية ملحقة به)، يبقى السؤال: هل تصمد هذه المرة إهراءات مرفأ بيروت، لتبقى معلماً شاهداً على أضخم إنفجار، بعد هيروشيما؟

شارك المقال