لو كنتُ أعلم!

عاصم عبد الرحمن

قال الأمين العام لـ “حزب الله” السيد حسن نصر الله في 27 آب 2006 أي بعد انتهاء حرب تموز بأسبوعين وفقاً للقرار 1701 الصادر عن مجلس الأمن الدولي: “لو كنت أعلم أن عملية خطف جنديين اسرائيليين كانت ستؤدي إلى جولة العنف التي استمرت 34 يوماً لما قمنا بها”. حربٌ أسفرت عن مقتل واستشهاد أكثر من 1300 شخص عدا عن حجم الدمار المادي والمعنوي الذي تسببت به. اليوم هناك فراغ دستوري متمدد، أرقام مخيفة لمستويات الفقر، إنهيار مالي واقتصادي غير مسبوق في التاريخ الحديث، تفتت اجتماعي يُترجم قتلاً وانتحاراً واغتصاباً، اهتراء تربوي يصيب الأجيال، انحدار أخلاقي يضرب الخطاب السياسي والاعلامي وأشكال التواصل الاجتماعي كافة، أخطار أمنية متنقلة وعلاقات خارجية مصابة بفعل التصويب السياسي والتهريب الحدودي خدمةً لمشروع لا يمت إلى واقع اللبنانيين والعرب بصلة، أفلا يعلم السيد أن دويلة لبنان تكاد تسقط تحت أقدام دولة حزبه أرضاً وشعباً وسلطةً؟

السيد الذي يعلم كل شيء هو حسن عبد الكريم نصر الله المولود في 31 آب 1960، الأمين العام الثالث والحالي لـ “حزب الله” منذ 16 شباط 1992. ثلاثون عاماً ولا يزال يتربع على عرش سلطة الحزب، وعلى أثر اغتيال قائد “فيلق القدس” قاسم سليماني أوكل إليه الايرانيون مهمة إدارة ملفات اليمن والعراق وسوريا.

وبحسب دراسة صدرت عن المركز الملكي للبحوث والدراسات الاسلامية في الأردن سنة 2009، فإن نصر الله يعتبر من بين أكثر 50 شخصية تأثيراً في العالم الاسلامي، ويصفه العديد بأن لديه كاريزما وشخصية قويتين، فخطبه الحماسية وعباراته العميقة ونظراته الواثقة على وجه الخصوص أيام الاحتلال الاسرائيلي لجنوب لبنان وحرب تموز تركت آثاراً لدى المسلمين والعرب حدَّ اعتباره خليفةً لجمال عبد الناصر أو حتى عمر المختار على اعتبار أنه يواجه قوى الشر والاستعمار وهو مَنْ نجح في إثارة الرعب في نفوس الاسرائيليين وتهديدهم.

إذاً، فإنَّ السيد يعلم كل شيء ولا يمكن حتى الاعتقاد أن هناك شيئاً لا يعلمه، فحين قام “حزب الله” باختطاف الجنديين الاسرائليين ساد اعتقادان حول الغاية الحقيقية من فتح جبهة أخرى للكيان الصهيوني أي على حدوده الشمالية، الاعتقاد الأول هو التخفيف عن “حماس” التي كانت تخوض مواجهة معه على أثر اختطاف المجند جلعاد شاليط، أما الاعتقاد الثاني فكان للهروب من إقرار قانون إنشاء المحكمة الدولية الخاصة بلبنان. لكن ما كان واضحاً أن السيد نصر الله اعتقد باستمرار مفاعيل تفاهم نيسان 1996 الذي عمل على تحقيقه رفيق الحريري عبر بذله جهوداً ديبلوماسية مضنية خاضها مع الأميركيين والفرنسيين آنذاك لنزع “حزب الله” عن لائحة الإرهاب عقب عناقيد الغضب التي شنها العدو الاسرائيلي، إلا أن الرياح جرت عكس التوقعات فكان ما كان من حرب وقتل وتهجير وتدمير لكن لا بأس إذا كانت الغاية هي تحطيم كبرياء العدو الصهيوني الغاصب الذي لا ينفك يعيث فساداً أينما حلَّ محتلَّاً.

من وهج التحرير إلى ظلمة 7 أيار

بدأت عملية تحرير الجنوب يوم 21 أيار 2000 حين أعلنت كتيبتان تابعتان لميليشيا جيش العميل الاسرائيلي أنطوان لحد استسلامهما، ثم قام الأهالي باجتياح بشري مدعوم بمجموعات من “حزب الله” لتحرير القرى على الرغم من قصف الاسرائيليين واعتداءاتهم. استمرت عملية تحرير القرى والبلدات الجنوبية المحتلة 4 أيام فكان ليل 25 أيار التاريخ الكبير في تحقيق النصر الذي احتفل به ليس اللبنانيون فحسب، إنما العرب كل العرب الذين آمنوا بعروبة المقاومة الداعم الأول للقضية الفلسطينية، وبوطنيتها اللبنانية التي لن تبخل في المساعدة على تحقيق بناء الدولة المنشودة بعد حرب أهلية دمرت البلاد والعباد مدة 15 عاماً مضت.

إطلالة انتصارية أخرى لـ “حزب الله” كانت في حرب تموز، يومها احتضن اللبنانيون أبطال تحرير الـ 2000 وعائلاتهم، فُتحت لهم القلوب قبل البيوت في الشمال وعكار والجبل وغيرها من المناطق التي آمنت فاندفعت وبكل قواها إلى تقديم “الفزعة” فأهل الجنوب والضاحية هم أهل كل لبنان.

ظلّ “حزب الله” رمز المقاومة والتحرير وفق اعتقاد العرب حتى اندلاع أحداث 7 أيار 2008 حين خاض هجوماً عسكرياً عنَّف فيه النفوس البيروتية واللبنانية قبل تعنيفه البشر والحجر بآلاته العسكرية الحادة متسلطاً بذلك على الشعب والسلطة بقوة السلاح، يومها انكشف السيد حسن وفق تعبير إحدى المصريات الغاضبات عبر الإعلام وعلى الأثر تراجع حضوره البطولي عربياً وإسلامياً.

المقاومة من التحرير إلى الإخضاع

بعد انتصار تموز الذي حققه “حزب الله” ليس بقوة سلاحه وصواريخه فحسب، بل بدفء أحضان اللبنانيين على السواء الذين هبوا لنصرة المقاومة، غمز الرئيس السوري بشار الأسد السيد حسن نصر الله من أجل تحويل الإنتصار العسكري إلى سياسي فتُرجمت تلك الإشارة محاولةً لإسقاط حكومة فؤاد السنيورة المنتخبة عام 2005 وبالتالي احتلال شوارع بيروت لأكثر من عام وإغلاق الكثير من المؤسسات التجارية وانهيارها وهجرتها، معركة تعطيلية حكومياً وتشريعياً بالتوازي مع شغور رئاسي استمر طيلة 6 أشهر انتهت بأحداث 7 أيار “المجيدة” والتي أدت إلى انعقاد مؤتمر الدوحة الذي شرعن إعطاء “حزب الله” وحلفائه الثلث المعطل في الحكومات المتعاقبة، فانتقلت بندقية الحزب من جبهة مقاومة العدو إلى تحقيق مكاسب سلطوية وإخضاع الشركاء في السياسة والوطن وتسخير مؤسسات الدولة في خدمة وضع حجر أساس بناء الدويلة.

كان السيد يعلم جيداً أن إغلاق وسط بيروت سيؤسس لمرحلة الانهيار المالي الذي يعيشه لبنان اليوم عبر هروب الرساميل وانسحاب شركات تجارية عملاقة من السوق اللبنانية وبالتالي وقوع خسائر مالية واقتصادية كبيرة.

كان السيد يعلم أن إسقاط حكومة سعد الحريري لدى دخوله للاجتماع بالرئيس الأميركي باراك أوباما أواخر العام 2010 عبر استعمال الثلث المعطل الذي استولى عليه بمجد 7 أيار سيدفع إلى انسحاب مودعين كبار من المصارف اللبنانية ورحيل استثمارات كبرى تعود بفوائد اقتصادية وتوظيفية هائلة على لبنان، وبالتالي تأزم العلاقات السياسية مع الأشقاء العرب والمسلمين خصوصاً السعودية ومصر وتركيا كرد فعل على تطويق الديموقراطية وممارسة الكبرياء السياسي في الاستحقاقات الدستورية والوطنية من دون أي اعتبار لسيادة القانون والمؤسسات الشرعية.

نصرة سوريا ومواجهة “داعش”

في 25 أيار 2013 أعلن السيد حسن نصر الله في خطاب متلفز عن قتال الحزب في الحرب الأهلية ضد “المتطرفين الاسلاميين” مضيفاً إن جماعته لن تسمح للمسلحين السوريين بالسيطرة على مناطق حدودية مع لبنان، وأكد أن قواته تقاتل إلى جانب الأسد في القصير وغيرها من المناطق السورية التي خرجت من أجل المطالبة بقليل من الحريات السياسية والديموقراطية. السيد الرمز بالنسبة الى السوريين الذي تملأ صوره جدران المحال التجارية والبيوت إلى جانب الرئيسين الأسد الأب والابن. وتحت شعار “منعاً لتمدد الإرهاب إلى لبنان وحماية المقامات” استمر الحزب في قتاله مدعوماً بأعتى الميليشيات الايرانية والعراقية بقيادة قاسم سليماني.

كان السيد يعلم بأن قتاله الإرهابيين في سوريا لن يمنعهم من خطف العسكريين وتصفيتهم. ذهب اللبنانيون إلى سوريا وجاء السوريون بالآلاف نازحين ولاجئين إلى لبنان.

كان السيد يعلم بأن قتال الإرهابيين في سوريا لن يثنيهم عن التمدد في أرجاء البلاد العربية، ولكن هل كان يعلم بتأمين نقل عائلاتهم عبر الباصات المجهزة لأسباب إنسانية؟

المقاومة السياسية

كان السيد يعلم بأن الوعد الإلهي الذي منحه للجنرال ميشال عون بأن يصبح رئيساً للجمهورية سيتحقق بقوة تعطيل الحياة السياسية حتى بلوغ الهدف المنشود. كان يعلم بأن تهريب الكبتاغون إلى البلاد العربية ومشاركة الحوثيين في القتال ضد الشرعية اليمنية وتغطية إطلاق الصواريخ نحو السعودية سيحطم علاقات لبنان العربية.

كان السيد يعلم بتفاصيل عملية تهريب العميل الاسرائيلي عامر الفاخوري إلى الولايات المتحدة، وهو يعلم وربما رئيس الدولة يومها ميشال عون ما كان يعلم بتفاصيل اتفاق ترسيم الحدود البحرية مع الكيان الصهيوني الذي أشرف عليه ورعاه الأميركيون ولم تتوضح صورة ثمنه وكيفية قبضه بعد.

هو يعلم بدقائق أمور تشكيل الحكومات وإسقاطها وتوزيع الأصوات الناخبة وإقرار القوانين وإصدار المراسيم وتعيين الموظفين، وهو أكثر مَنْ يعلم بحقيقة تفجير مرفأ بيروت وحقائق الاغتيالات والنتائج السياسية للظهور بالقمصان السود… هو يقبل ويرفض، يسمح ويمنع، يبرّئ ويتهم… هو مَنْ يقرر.

هو يمسك بتفاصيل دويلة لبنان التي أطبق عليها انهيار عملتها الوطنية عبر تحطيم نظامها المصرفي واستنزاف قدراتها المالية والاقتصادية وفرض البدائل التي لا تغني ولا تسمن من جوع الحاجات اللبنانية، فالمازوت الايراني لن يعوّض النفط المهرب عبر الحدود، والقرض الحسن لن يتمكن من الحلول مكان المصارف، ولا السلاح غير الشرعي مكان المؤسسات العسكرية والأمنية، ولا القمصان السود مكان الديموقراطية، ولا معابر التهريب الحدودي غير الشرعي مكان المرافق العامة، ولا الممرات السفلية والخنادق مكان الطرق المؤدية إلى مؤسسات الدولة القانونية والدستورية.

إنه السيد حسن نصر الله الذي يعلم بكل شيء حتى قبل حدوثه أقله وفق ما يؤمن به أنصاره، ولكنهم يجهلون شيئاً واحداً هو أنَّ دولة الحزب التي بُنيت فوق أنقاض دويلة لبنان ستنتفض بسواعد أبنائها المرابطين على حدود الحلم باستعادة لبنان الدولة والشرعية والقانون وعلى اختلاف طوائفهم ومذاهبهم وانتماءاتهم السياسية وحتى من داخل الطائفة الشيعية وربما من أصدقاء المقاومة نفسها، إذ إن هناك من بينهم مَنْ بات يميز بين أحقية مقاومة اسرائيل ورمزيتها واستقلالية القرار السياسي عن السلاح سعياً وراء ديموقراطية طال انتظارها عند قارعة مختلف الطرق غير المؤدية إلى فلسطين والتي لا تمر فوق بقايا دولة أنهكتها طموحات الخارج المدعي زوراً حمل لواء القضية الفلسطينية التي لم تشهد حتى يومنا هذا تحركاً نضالاً حقيقياً يوصل إليها، ولو كنا نعلم الغيب لاستكثرنا من الخيرات.

شارك المقال