“حزب الله” في الكحالة أسقط “عون الأول والثاني”

أنطوني جعجع

اثنان سقطا في حادثة الكحالة، حسن نصر الله على المستوى الوطني، والعمادان جوزيف عون وميشال عون على المستوى المسيحي.

فالأول تجاوز كل الحدود الشعبية والسياسية والطائفية والتعايشية التي نصّبته في مرحلة من المراحل زعيماً كاد يدخل الى كل بيت لبناني وعربي واسلامي، والثاني تجاوز أداءه العسكري المتوازن وموقعه الماروني الذي أوصله أصلاً الى قيادة الجيش، وتشدد في مواجهة طائفته في مواقع أظهرته منحازاً الى “حزب الله” سواء قسراً أو طوعاً.

وقد يتساءل البعض عن تلك المواقع التي سقط فيها “عون الثاني”، والجواب يأتي من الشدة التي يبديها جنوده في مواجهة التجمعات المسيحية في الساحات والشوارع، وهي الشدة التي لم توفر امرأة وشيخاً وحتى رجل دين، وفي القرنة السوداء حيث أردى مالك طوق في منطقة قيل إنها باتت مسرحاً لعناصر من “حزب الله” يرابطون في أعلى قمة في لبنان لأهداف عسكرية واستراتيجية، وفي مواجهة أهل الكحالة أخيراً في جولة بدا فيها الجيش، وبناء لإصرار من نصر الله نفسه، حارساً لشاحنة محملة بسلاح غير شرعي لا بل رافعة علنية لنقلها الى مكان آخر قبل التأكد من حمولتها ووجهتها ومخازنها وأهدافها.

اما نصر الله، فقد خسر في “جولة الكحالة” آخر ما تبقى له في المجتمع المسيحي باستثناء بعض المتلهفين للوصول الى قصر بعبدا، خصوصاً أن ما جرى يشبه تماماً ما جرى في مرفأ بيروت في الرابع من آب العام ٢٠٢٠، ليس من حيث الحجم والضرر، بل من حيث الوقائع التي تقول ان الرجل حوّل المناطق المسيحية اما الى مخزن للمتفجرات في مكان، واما في مكان آخر الى معبر للسلاح لا يعرف المراقبون والمطلعون ماهيته وطبيعته ودقته ومصدره ومداه وقوته التفجيرية.

والسؤال الذي يطرح نفسه في دوائر المراقبين العسكريين سواء في لبنان أو اسرائيل أو أميركا: ماذا كانت تحمل تلك الشاحنة التي انقلبت عند كوع الكحالة، ولماذا هذا الارتباك الذي أصاب قيادتي “حزب الله” والمؤسسات الأمنية اللبنانية معاً؟

يقول أحد المراقبين رداً على هذا السؤال: “إن المسألة ليست في ما يبدو، مسألة ذخائر لأسلحة خفيفة أو متوسطة”، لافتاً الى أن “حزب الله” لن يثير تلك الضجة وتلك اللهفة حيال حمولة من هذا النوع. ويضيف: “ربما كانت الحمولة قطعاً تستخدم في صناعة الصواريخ والمسيرات”، على الرغم من أن مراقباً آخر يؤكد أن في الأمر بعض المبالغات والتكهنات والتأويلات، مشيراً الى أن “حزب الله” كان حريصاً على ألا تقع تلك الحمولة في أيدٍ غريبة أو معادية، وكل ما عدا ذلك ليس الا زوبعة في فنجان.

وبعيداً من كل ذلك، فضح كوع الكحالة الممر الذي تسلكه القوافل العسكرية من سوريا نحو مخازن “حزب الله” في الضاحية الجنوبية ومنها نحو الجنوب وربما مناطق أخرى، وحوّلت المناطق المسيحية الخالية من وجود وازن للثنائي الشيعي، الى “غطاء مموه” بهدف تحويل أنظار المسيرات الاسرائيلية وربما الأميركية نحو مناطق أخرى طالما استخدمت سابقاً في “نقليات” أخرى.

والواقع أن ما جرى في الكحالة ربما فتح عيون تل أبيب التي اعتبرت الحمولة واحدة من الحمولات التي نجت من الغارات التي تشنها في سوريا، وفتح أيضاً عيون أميركا التي اعتبرت تغلغل “حزب الله” في المناطق المسيحية نوعاً من “الاحتلال المبطن” أو نوعاً من الانفلاش الفج، ومصدر خطر مباشراً أو غير مباشر في منطقة تعج بالسفارات العربية والأجنبية وتشهد حركة تنقلات ديبلوماسية وأمنية أميركية من وقت الى آخر.

وفي عودة الى “عون الثاني”، يجمع مراقبون كثر، على أن موقفه في الكحالة شوّه صورته في البيئة المسيحية التي طالما راهنت على الجيش كبديل للميليشيات على أنواعها، وفي دوائر القرار الأميركي والأوروبي، وتحوّل، حسب مسؤول غربي، الى “حليف قسري أو طوعي لقوى الممانعة” التي يقودها حسن نصر الله، مرجحاً أن تخضع مسألة تسليح الجيش اللبناني الآن لاعادة حسابات دقيقة.

ويكشف أن واشنطن تشعر بنوع من الخيبة حيال مؤسسات أمنية تمدها بالأسلحة والمساعدات المالية والتدريبية لتمكينها من التفرد بأمن البلاد في الداخل والحدود معاً، فلا تجدها في المناطق الحدودية حيث يجول “حزب الله” بسلاحه، وينفذ عمليات أمنية عبر الحدود وضد “اليونيفيل” ومسؤولين حزبيين واعلاميين من دون رادع أو مانع، ولا تجدها في الداخل حيت ينتشر “حزب الله” بسلاحه وصواريخه في الجرود اللبنانية ولا تكشفها في عنابر المرفأ، ولا في كل العمليات الأمنية التي وقعت منذ اغتيال الرئيس رفيق الحريري حتى اغتيال الياس الحصروني في عين ابل قبل يومين من مقتل فادي بجاني في موقعة الكحالة.

وثمة خاسر آخر، هو جبران باسيل الذي فقد القدرة على تسويق “حزب الله” في بيئته التي بات قسم كبير منها في مكان آخر هو أقرب الى الانفصال أو التقسيم منه الى أي تعايش مع الضاحية الجنوبية سواء عبر “اتفاق مار مخايل” أو عبر أي نوع من الزواجات والمسايرات .

وتذهب مصادر قريبة من “التيار الوطني الحر” بعيداً الى حد القول: “لولا ميشال عون لما تمكن حزب الله من الانفلاش في مناطقنا كما فعل حتى الآن”، مشيرة الى أنهم “يعتبرون أنفسهم الآن جزءاً من الوجدان المسيحي العام لا جزءاً من النهج العوني العام”.

وتضيف المصادر: “ان النظرية التي كانت تقول ان حزب الله يحمي المسيحيين بموجب اتفاق مار مخايل ليس الا ذريعة تسلح بها عون للوصول الى الرئاسة، وتسلح بها حسن نصر الله للتوسع والخروج من شرنقة الشيعة في الضاحية والجنوب الى المدى الأوسع”.

ولا يبدو سليمان فرنجية بعيداً من تداعيات ما جرى، وسط أجواء تفيد بأن منسوب الرفض لترئيسه مرشحاً أوحد لـ “حزب الله” قد ارتفع الى الحد الذي بات يحتاج فيه الى واحد من أمرين: اما معجزة غير متوافرة واما “انقلاب أمني” دونه مخاطر وخطوط حمر.

وأبعد من ذلك تماماً، تقول مصادر قريبة من الضاحية: “ان ما جرى في الكحالة أخرج حزب الله من قلوب المسيحيين، وأضاف الى أعدائه عدواً آخر لم يكن في الحسبان”، مشيرة الى أن مقتل عنصر من عناصره بسلاح مسيحي “ممانع” للمرة الأولى منذ العام ٢٠٠٥، رسالة خطيرة لا يمكن التعامل معها على أنها أمر عابر أو طارئ.

وتتابع: ان حسن نصر الله يتعامل الآن مع جبران باسيل على أنه صاحب كتلة نيابية لا زعيم شارع مسيحي كبير، متبنياً النظرية التي تقول ان الغالبية المسيحية باتت قي مكان و”التيار الوطني الحر” بات في مكان آخر ويتعامل مع فرنجية على أنه “حصان خاسر” في تطمينات المسيحيين، الأمر الذي يفسر مسارعة رئيس تيار “المردة” المرتبك والمحرج الى الديمان بحثاً عن غطاء مسيحي.

وسط هذا المشهد القاتم، لا يختلف اثنان على أن فائض القوة لدى “المقاومة الاسلامية” قد قادها الى الاستحقاق الحتمي الذي عايشه الفلسطينيون والسوريون من قبل، أي الاستحقاق الذي يضعه، في حال واصل الامعان في التحديات والاستفزازات، أمام خيارين لا ثالث لهما: اما الهرب من الداخل الى حرب مدمرة مع اسرائيل، واما الهرب من اسرائيل الى حرب انتحارية في الداخل.

فماذا يختار؟

شارك المقال