“الحزب” في كواليسه… لسنا بخير!

أنطوني جعجع

لا شك في أن “حزب الله” اليوم لم يعد “حزب الله” الذي كنا نعرفه، أي الحركة المنظمة والمنضبطة المتوازنة في السياسة والمتأنية في الأمن.

فما جرى ويجري منذ اقفال صناديق الاقتراع في أيار العام ٢٠٢٢، وانتاج واقع برلماني لا يملك فيه لا الغالبية ولا القدرة على التحكم به خارج مطرقة الرئيس نبيه بري، يظهر “حزب الله” في حال عصبية واضحة تعكس حاله المتشنجة والمتأهبة لفعل ما يمكن لاستعادة الكلمة الفصل أو للتأثير فيها على الأقل سواء عبر السلاح أو عبر التهويل والترغيب أو عبر التعطيل والتسهيل.

وما جرى ويجري بدءاً من خلدة مروراً بعين ابل ووادي الزينة وصولاً الى الكحالة وحدود الغجر في الجنوب، يمظهر ما يشبه القضم الأمني الذي يطاول منطقة بعد أخرى، في اطار خطة لا أحد يعرف ماهيتها الجيوسياسية حتى الآن، ولا يعرف هل هي نوع من التطويق الذي يهدف الى ترويع أو احتواء المناطق العاصية عموماً عساه يروّع السياسيين المعارضين، ولا سيما الأحزاب المسيحية التي تقود في معظمها المعارضة داخل البرلمان وخارجه.

وأكثر من ذلك، هل هي محاولة “تفريغ” في بعض المناطق أو ميدان اختبار ورصد لمدى قدرة بعض المسيحيين المعارضين على فرض واقع أمني يمكن أن يهدد المشروع العقائدي الذي يقوده حسن نصر الله بطريقة “سلسة” طالما تمكن بها من جذب قسم كبير من المسيحيين الذين يقودهم الرئيس ميشال عون و”التيار الوطني الحر” في مرحلة من المراحل؟

الواقع أن الخطاب الأخير لحسن نصر الله لم يكن الا أنصع دليل على الحالة المتشنجة التي يعانيها “حزب الله” الذي بات أكثر “استخفافاً” في التعاطي مع بعض حلفائه وأكثر “فوقية وفجاجة” في التعاطي مع خصومه، في شكل بدا كنمر جريح تلقى سهماً ممن لا يراه أكثر حجماً من قطة صغيرة.

ويتفق الكثير من المراقبين على أن الأمر تغير بالنسبة اليه الى حد كبير، فالمعارضة المسيحية باتت أكثر جرأة وتحدياً، لا بل باتت أكثر اندفاعة نحو المواجهة في مكان ونحو الانفصال في مكان آخر، والطائفتان السنية والدرزية باتتا أكثر ابتعاداً عن “الثنائي الشيعي” ومعه النظامان السوري والايراني باستثناء بعض الكتل الفردية من جهة واللياقات الاجتماعية والسياسية من جهة أخرى، كتلك القائمة بين بري ووليد جنبلاط أو بين الرئيس نجيب ميقاتي وكل من “حزب الله” وحركة “امل” عبر وزرائهما داخل حكومة تصريف الأعمال.

ويقول خبراء راقبوا حسن نصر الله في خطابه الأخير: إن الرجل لم يكن قادراً على ضبط أعصابه كما كان يفعل في محطات سابقة، وتعامل مع حادث الكحالة وكأنه يوازي بعض العمليات الأمنية الاسرائيلية أو الأميركية التي طاولت مخازنه وقوافله العسكرية على الخط الممتد من ايران الى سوريا، وتعامل مع وسائل الاعلام كما يتعامل عادة مع الاعلام الدولي الذي يدرج حركته المسلحة على لائحة “المنظمات الارهابية”.

ويضيف هؤلاء: ان نصر الله لم يكن قادراً على ابتلاع ما كان يشاهده على الشاشات المنتشرة على كوع الكحالة، أي مقتل واحد من أشد مقاتليه المدربين والمخضرمين بسلاح مدني ممانع، والعجز عن نقل شاحنة مليئة بالأسلحة أو تفريغ حمولتها من دون وساطة أو مساعدة من أحد.

والواقع ان الرجل كان يعرف في قرارة نفسه أن حادث الكحالة كان يمكن أن يمر بسلاسة كما مرت حوادث أخرى، لكن ثمة أمراً منعه أو يمنعه من ذلك، وهو أنه وقع في منطقة مسيحية صافية تحضن طريقاً استراتيجياً بالنسبة الى تنقلات كوادر “حزب الله” من لبنان الى سوريا ومنها الى ايران والى قوافل الأسلحة التي يقودها من سوريا الى لبنان.

وأكثر من ذلك، ما جرى في الكحالة أعاد ذاكرته الى الطيونة، المنطقة التي فقد فيها سبعة من بيئته برصاص لا يزال موضع أخذ ورد حتى الساعة، وهي الموقعة التي استغلها لترهيب المعارضة المسيحية بمئة ألف مقاتل.

ويكشف مصدر قريب من الضاحية الجنوبية، أن ما جرى في الكحالة شكل تعرضاً مباشراً لهيبة “حزب الله” وأثار مخاوف من أن يكون أولاً دافعاً الى مزيد من التحديات والمواجهات التي تعرقل سياسة الانتشار الديموغرافي التي نفذها على مدى السنوات العشرين السابقة، وثانياً سياسة “اللامركزية” المبطنة التي انطلق بها من الضاحية الجنوبية من خلال “القرض الحسن” نحو سوق الغرب وبعدها نحو جبيل، ومن أن يكون ثالثاً مكيدة تستهدف في الوقت عينه الهاءه عما جرى ويجري في غزة وسوريا والعراق واليمن اضافة الى اقتراب مواعيد الحفر في الحقل التاسع وبالتالي تحديات المحاصصات والحقوق والحماية والأسواق والخطوط.

من هنا، يتوقع طباخو الرئاسة اللبنانية أن يتمسك “حزب الله” بالمرشح سليمان فرنجية أكثر من أي يوم مضى، معتبراً أنه الحليف الوحيد القادر على حماية ظهره، وانتاج بيئة مسيحية يأمن لها في وقت يستعد لمواجهات محتملة مع اسرائيل في الجنوب ومع الجيش الأميركي في الخليج وربما في سوريا حيث تحاول روسيا بالتنسيق مع ايران وحلفائها سحبه بالقوة.

ولعل القلق الذي أبدته ايران علناً حيال التحركات الأميركية على أعتابها، هو الذي دفع حسن نصر الله الى وضع كل أوراقه الحقيقية على الطاولة دفعة واحدة، والذهاب بعيداً في تحدياته التي ألمح فيها الى القدرة على اعادة اسرائيل الى العصر الحجري، واحتمال الدخول في “حرب أهلية” ينهي بها ما يعتبرها بؤر الغدر والخيانة.

والواقع الذي يطرح نفسه حتى الآن أن حسن نصر الله لا يبدو في وارد طي الصفحة في الكحالة مجاناً، ويميل الى جعل ما حدث درساً لمن يعتقد أن “حزب الله” تناسى ما حدث في الطيونة أو أنه سيتناسى ما حدث في الكحالة.

أحد الديبلوماسيين الغربيين علق على حادث الكحالة، قائلاً: “إن من يجب أن يتعظ هو حزب الله نفسه، لأن ما جرى يثبت أنه لم يعد المقاومة التي تدخل القلوب والعقول بل الميليشيا التي تدخل البيوت، وأن الغالبية باتت تتحسس رقابها كلما ابتعد مسلحوها من الجنوب وتوغلوا في الداخل”.

وتابع: “على حزب الله، أن يدرك طبيعة التطورات المتقاربة والمتسارعة في المنطقة”، مشيراً الى أن المجتمع الدولي المتعطش لمصادر الطاقة لن يسمح للمخزون اللبناني بالتحول الى مورد مالي لايران وحلفائها أو الى ورقة ضغط توازي الضغوط الدولية، وأن تحرير أموال ايرانية مجمّدة بقرار أميركي لم يكن لتحرير رهائن أميركيين في ايران وحسب، بل كان أيضاً لتحرير ملفات كثيرة من قبضة طهران وبينها ملف الرئاسة اللبنانية.

ودعا المصدر نفسه نصر الله الى عدم الرهان طويلاً وكثيراً على الدور الفرنسي المترهل، ومراقبة الدور الأميركي العائد بقوة الى الشرق الأوسط، ناصحاً له بالتمعن جيداً في ما يحدث في الخليج اذا أراد فعلاً أن يعرف ماذا ينتظره في لبنان.

شارك المقال