أميركا لمن يهمه الأمر: لقد عدنا!

أنطوني جعجع

من أوروبا الى إفريقيا مروراً بآسيا وصولاً الى الشرق الأوسط، انه الانحسار السياسي والعسكري والاقتصادي الفرنسي في العالم، سواء أقرت باريس بذلك أو كابرت، وانه العودة الأميركية الى بعض الساحات التي أفلتت أو كادت تفلت من يدها لمصلحة الصين وروسيا في مكان أو ايران في مكان آخر.

فجأة ومن دون مقدمات، انقضت واشنطن على الدور الفرنسي في أزمة الرئاسة اللبنانية، ومن خلالها على دور اللجنة الخماسية في خطوة كادت في لعبة الشطرنج تقول: “كش ملك” أو في لعبة الانقلابات: “الأمر لي”.

وفجأةً كشرت الادارة الأميركية عن أنيابها، وانتقلت من دور المتفرج في بعض الجبهات الى دور المتأهب في جبهات أخرى، في خطوة تتوخى القول من خلالها: أنا هنا لأبقى وليس للانكفاء أو للتساهل حيال أي اقتراب سلبي من مصالحها وقواعدها وخطوطها الحمر أو التعرض لجنودها أينما انتشروا سواء في دول صديقة أو على جبهات متفجرة.

وليس في هذا المشهد الكثير من المبالغة اذا راقبنا الحشد البحري الأميركي في مياه الخليج وتحديداً قبالة السواحل الايرانية، وإذا راقبنا الحشد البري والجوي في سوريا، إضافة الى تجدد الثورة السورية في منطقة السويداء، في ما يشبه الرد غير المباشر على الرئيس بشار الأسد الذي يحاول مع “الحرس الثوري” و”حزب الله” وبتنسيق مع روسيا، طرد الجيش الأميركي المرابط في البلاد.

وليس في المشهد عينه أي مبالغة مختلفة، اذا راقبنا حجم التكتلات العسكرية التي تقيمها واشنطن قبالة تايوان والمحيط الهادي في محاولة للجم النفوذ العسكري الصيني المتعاظم، ومنعه من التعاون مع الجيش الروسي الذي يعاني في أوكرانيا منذ عام ونصف العام، أو من اقتحام الجزيرة الصغيرة التي قد تتحول الى “فيتنام أخرى” أو “كوريا جديدة” بالنسبة الى الأميركيين وحلفائهم في آسيا وأوقيانيا.

وقد يقول قائل، إن هذا العرض لا يعكس الواقع في وقت تسعى دول حليفة، مثل السعودية والامارات وأخرى معادية مثل ايران الى الالتحاق بمنظمة “البريكس” القريبة من موسكو، في خطوة قد يراها بعض المغالين في الممانعة ضربة للعلاقات الأميركية – الخليجية التي طالما شكلت سداً منيعاً أمام أي “تطفل” روسي أو صيني أو ايراني من أي نوع ومن أي باب.

وفي عودة الى الملف اللبناني، لا يخفى على أحد أن فرنسا المنسحبة من مالي والنيجر والمهتزة في دول إفريقية أخرى والمضطربة في الداخل لأسباب اقتصادية وديموغرافية، تلقت ضربة أميركية شبه قاضية دفعتها الى الصفوف الخلفية في ما يتعلق بملف الرئاسة اللبنانية، ليتراجع معها أي دور آخر سواء كان في اطار اللجنة الخماسية مجتمعة أو في اطار المبادرات الفردية مثل المبادرة القطرية.

والواقع أن الأميركيين لم ينسوا أولاً للرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون موقفه المعاكس للاستراتيجية الأميركية حيال جزيرة تايوان خلال زيارته بكين قبل أشهر، ولا يريدون ثانياً أن يتكرر زمن السفير الفرنسي السابق رينيه الا، الداعم الأساس لتمرد الجنرال ميشال عون في أواخر ثمانينيات القرن الماضي، بحيث تعود باريس الى الساحة اللبنانية من خلال دعم أي مرشح يدعم سلاح “حزب الله” في لبنان.

وأكثر من ذلك، لا تريد واشنطن ثالثاً وصول منظومة سياسية الى السلطة تشبه ما سبقها، في وقت بدأت فرنسا من خلال شركة “توتال” أعمال الحفر في الحقل التاسع وسط تقارير تتحدث عن كميات تجارية من الغاز والنفط تصل قيمتها الى مليارات الدولارات.

والمقصود هنا، أن الولايات المتحدة وحلفاءها لا يعتزمون الدخول في أي مخاطرة قد تجعل ايران و”حزب الله” ومحور الممانعة الطرف الذي يسيطر على موارد الطاقة اللبنانية التي يحتاج اليها الغرب بديلاً من الغاز الروسي، وهذا ما يفسر الكلام عن احتمال عودة الموفد الأميركي آموس هوكشتاين الى المنطقة، للبحث في ثلاثة ملفات رئيسة هي: أمن الحدود اللبنانية – الاسرائيلية، أمن الطاقة اللبنانية الواعدة وسيرة الرئيس اللبناني المنشود.

وهنا لا بد من سؤال بديهي: اذا كانت واشنطن ترفض أي رئيس لبناني تختاره فرنسا فمن يمكن أن يكون مرشحها الخفي؟

تقول مصادر قريبة من دوائر القرار الأميركي: ان واشنطن لم تطرح ولن تطرح أي مرشح سواء علناً أو خلف الكواليس، وجل ما تريده رئيس وسطي لا يكون “رهينة” في الضاحية ودمشق أو “دمية” في بعبدا.

وتضيف: ان أميركا، شأنها شأن الممانعة لا تملك الغالبية المطلوبة لمثل “هذا الرئيس” لكنها تملك الوسائل الناجعة التي تبقي فرنسا أولاً بعيدة من “حزب الله”، وتبقي ثانياً الرئيس الأسد على أعصابه، وتبقي ثالثاً ايران على حذرها، وتلعب رابعاً على وتر المهام الدولية في جنوب لبنان، وتدفع خامساً البرلمان اللبناني ورئيسه نبيه بري نحو الاختيار بين رئيس لا يعاديها وعقوبات لا يمكن تحملها، مشيرة الى أن الولايات المتحدة تريد أن ترى “هذا الرئيس” في قصر بعبدا قبل صعود الغاز اللبناني الى السطح.

وتختم: انها أميركا التي تحاول ابراز قوتها الاقتصادية والعسكرية في العالم، في وقت يعجز رئيسها الضعيف جو بايدن عن ابراز قوته القيادية.

شارك المقال