بريد الدكتور جعجع

الراجح
الراجح

إذا حلّلنا كلمة “الحكيم” في ذكرى شهداء “القوات اللّبنانيّة” نستنتج موقفين في السياسة وثلاث رسائل:

كان الموقف الأوّل تجاه “حزب اللّه” ودوره في كل عمليّات الاغتيال الّتي حصلت منذ العام 2005 وصولاً الى القوّاتي “القيادي” الياس الحصروني، مع تحميل مسؤوليّة الانهيار التّام الشّامل وحتّى الافلاس في كل بيت ومؤسّسة في لبنان لهذا الحزب الواجب مواجهته من دون هوادة ومهما كان الثّمن… (ومنيح كتير إنّو “الحكيم” خبَّرنا انّو السلاح الوحيد لهذه المواجهة الضارية هو “الصّمود”).

الموقف الثّاني كان باتجاه مبادرة رئيس مجلس النّواب والدعوة إلى الحوار، والرّفض المطلق للحوار لأن كل من يقرأ قصة ليلى والذئب لا يذهب الى الحوار مع الذئب!

والرّسائل الثّلاث كانت باتجاه فرنسا من دون أن يسمّيها، وللنواب الرّماديين، وأخيراً لجبران باسيل؛ ولغاية الآن لم أفهم لماذا سمّى الجميع ما عدا فرنسا؟

كل ما تقدم كان كلاماً للحكيم في كلمته الأخيرة يوم الأحد الواقع في 3 أيلول 2023. حدّدْتُ التاريخ لأنه أخذني إلى سنوات طويلة مضت حين كان موقف للمجلس السياسي للحركة الوطنيّة يدعو الى “الصمود” في مواجهة المشروع الامبريالي الصهيوني بأدواته المحليّة، وحين أدّى القصف العنيف لمناطق نفوذ القوى الوطنيّة الى هجرة الأهالي من مناطق الشّياح وبرج البراجنة والخندق الغميق وغيرها باتجاه قرى وبلدات الجنوب اللبناني الذي كان ينعم بالهدوء لغاية السّكينة. ولمنع الهجرة من هذه المناطق قرّرت الحركة الوطنية “الصمود” وأقامت حواجز على مخارج العاصمة باتجاه الجنوب لمنع المقيمين من النزوح والبقاء في بيوتهم غير الآمنة تنفيذاً لقرار “الصمود” للأهالي.

حدث ذات ليلة من ليالي “الصمود”… حين كنت عائداً من أحد مراكز القوى الثّورية، والساعة حوالي الثالثة فجراً، لأفاجأ بجارنا بائع الصحف المتجوِّل أبو علي جالساً على درج منزلنا وبانتظاري. اعتقدت للوهلة الأولى أنه سيطلب مني إيصاله إلى حيث يتسلم الصحف التي يوزِّعها، مع أن الليلة تلك كانت من أعنف ليالي القصف على أحياء بيروت وضواحيها الغربية. لكن المفاجأة كانت أنّه يريدني أن أساعده لاعادة أثاث منزله الذي صادره الأمن الشعبي على مستديرة المطار في حينه لمخالفته قرار “الصمود” ومحاولته الهروب بعائلته من جحيم القصف الذي طاول المبنى الذي يسكن فيه، وأعطاني الايصال الذي يثبت المصادرة! اتفقت مع الجار أبو علي على أن نذهب حوالي الساعة العاشرة صباحاً إلى “ثكنة الحلو” في بيروت حيث كان مكتب المحامي فؤاد شبقلو بصفته رئيساً للأمن الشعبي. وبالفعل دخلت مع أبو علي وبرفقة شابّين رفيقين مدجّجين بكل أنواع الأسلحة ما عدا الدّبابة لصعوبة حملها معهما.

استقبلني الأخ فؤاد مبتسماً ممتعضاً من شكل الشّابين على ما ظهر من نظرته إليهما وسألني: “شو بقدر أخدمك؟”.

أعطيته الإيصال وقلت له: “نريد استلام العفش والسماح لأبو علي بالمغادرة إلى قريته في الجنوب وتزويده كتاباً بعدم التعرض له”. فاجأني بالرفض وبنبرة شبه عالية: “هذا لا يمكن أن يحدث، أنت ثوري وتعرف أن أبو علي خالف قرار الصمود”.

أجبته بنبرة جد منخفضة: “يا أستاذ فؤاد، لو أن أبو علي كان برفقة عائلته ومن دون العفش متوجهاً نحو الجنوب هل كان حاجز الأمن الشعبي ليمنعه؟”.

قال: “حتماً، لا. للإنسان حرية التنقل في كل مناطقنا”. فقلت له وبنبرة عالية جداً: “هذه المرة إذاً صحِّحوا القرار واطلبوا صمود العفش وليس المواطنين”.

لكنه لم يجِب وبدأ بالكتابة وأعطاني الإذن لأبو علي وقال: “أي شي تاني؟”.

أجبته: “بكل تأكيد تأمين سيارة لنقل عفش أبو علي الى قريته في الجنوب بدل العطل والضرر”.

يا حكيم، الصمود، وليس قرار الصمود، له مقومات وليس خطاباً يلقى.

الصمود خطة وخريطة طريق فأنت من قال في المقدمة: “انهيار تام وشامل وحتى إفلاس في كل بيت ومؤسسة، الخ… من دون مشروع للمواجهة لن يكون هناك صمود ولن يبقى للناس إلا الصبر بانتظار الهجرة”.

شارك المقال