مخيم عين الحلوة… عاصمة الشتات المتفجرة (٢)

زياد سامي عيتاني

مخيم عين الحلوة… عاصمة الشتات المتفجرة (١)

مخيم عين الحلوة الذي خرّج كثيرين من القيادات الفلسطينية وله تاريخ حافل في محطات كثيرة في الأحداث اللبنانية وفي الحرب مع إسرائيل، تحول إلى عبء على القضية الفلسطينية وعلى الأمن في لبنان. فالوضع الأمني داخل المخيم، يبقى مصدر قلق دائم، بفعل ما يشهده على الدوام من إشتباكات ومعارك عسكرية بين فصائله المتصارعة عقائدياً وسياسياً، ما يجعل أهالي المخيم يعيشون مسلسل رعب دائم، حتى منذ نشأته، عندما كان عرضة للاستهداف من العدو الإسرائيلي والسلطة اللبنانية المتمثلة بـ “المكتب الثاني” على حد سواء. فلا يكاد ينتهي اشتباك بين مسلحي الفصائل المتخاصمة والمرتبطة بأجندات خارجية ويسقط قتلى وجرحى، حتى يحصل اشتباك آخر ويبدأ مسلسل الرعب من جديد، خوفاً من حصول اشتباكات واسعة، ويبدأ خروج المدنيين إلى مناطق أكثر أمناً.

“طفوا الضو وناموا”… جملة لا يزال كبار أهالي مخيم عين الحلوة يتذكرونها، على لسان عناصر مخابرات “المكتب الثاني” اللبنانية في خمسينيّات القرن الماضي وستينيّاته، إذ كانت المخابرات تحظر على أهالي المخيّم، السَّهَر إلى ما بعد السّاعة التاسعة ليلاً. كذلك عاملتهم على أنهم “خارجون عن القانون”، ومُعادون للنظام اللبناني في حينه إلى الحدّ الذي وصل بالمكتب، الى حظر السهر على أهالي المخيّم، ومنْع أكثر من شخصين من السّير معاً في طرق المخيم تحت ذريعة منع التجمُّع والتظاهر، وفي تلك الفترة منع اللاجئون من تدريس تاريخ فلسطين وجغرافيتها، وإنشاد النشيد الوطني الفلسطيني، ورسم خريطة فلسطين، وحتّى رفع العَلم الفلسطيني كان ممنوعاً في المخيّم. وقد استمر ذلك من العام 1948 حتّى العام 1969 مع اتّفاق القاهرة، الذي منح شرعيّة لوجود منظّمة التحرير الفلسطينيّة على الأراضي اللبنانيّة، لتصبح المخيّمات تحت إشرافها. ومنذ ذلك التاريخ، بات مخيم عين الحلوة نظراً الى موقعه الاستراتيجي القريب من الحدود مع العدو الاسرائيلي من أكثر المخيمات الفلسطينية تسليحاً وإنتشاراً لمختلف الفصائل، بذريعة الانتقال منه لتنفيذ عمليات عسكرية داخل الأراضي المحتلة.

لذلك، لم يحظَ أي من مخيّمات اللاجئين الفلسطينيين في لبنان بثقل وترميز مثلما حظي مخيم عين الحلوة، فقد تحوّل منذ سبعينيات القرن العشرين إلى ملاذ لباقي أبناء المخيّمات، ما جعله “عاصمة الشتات الفلسطيني. كما لم يعرف أيّ مخيّم فلسطيني في كلّ مواقع اللجوء الفلسطيني، تحوّلات مثلما عرف عين الحلوة على الصعد كافة. وكان هذا المخيم بفعل تسليحه وامتداده وتحصيناته هدفاً للاجتياح الإسرائيلي في العام 1982. لم تعمل القوات الاسرائيلية على اقتحامه، بل حاصرته وتجاوزته في الطريق نحو بيروت لتعود إلى الاستيلاء عليه بعد فرار المسلحين الفلسطينيين منه.

في سنة 1982، أقيم تجمّع “البستان”، شمال عين الحلوة، وذلك على إثر الاجتياح الاسرائيلي، الذي ضم لاجئين نازحين من مخيّمات بيروت، ومعهم لاجئون من النبطية وتل الزعتر. ولكن بعد الانسحاب الاسرائيلي من جنوب لبنان في المرحلة الأولى في العام 1985 أعاد الفلسطينيون تسليح أنفسهم في هذا المخيم وفي المخيمات الأخرى. ومرة جديدة عاد مخيم عين الحلوة ليلعب دوراً رئيساً في مجرى الأحداث اللبنانية ويعيد الاعتبار إلى دور البندقية الفلسطينية كأحد العوامل المؤثرة في الصراع الداخلي في لبنان. تجلى هذا الأمر في الحرب ضد محاولة حركة “أمل” المدعومة من سوريا السيطرة على المخيمات الفلسطينية في بيروت والجنوب في العام 1986. ولكن بعد محاصرة الحركة مخيمات صبرا وشاتيلا وبرج البراجنة في بيروت، تمكن المسلحون في عين الحلوة من الخروج من المخيم والتمدد نحو المناطق المتاخمة له مسجلين انتصارات على “أمل”. نتيجة هذا الأمر اضطر “حزب الله” إلى الفصل بينهما، وهذا التوسع امتد إلى البلدات التي شكلت إمتداداً لمدينة صيدا حتى مدينة جزين التي بقيت تحت السيطرة الأمنية الاسرائيلية. عقب حرب المخيمات أقيم في سنة 1986، تجمُّع “أوز”، الملاصق تماماً للمخيّم من شماله، ليصبح عين الحلوة بذلك، قد أقيم في سنة 1986، أكبر مخيّمات لبنان من حيث عدد السكان والمساحة، ومن هنا اعتبر عاصمة لشتات الشّتات في لبنان.

بعد انتهاء الحرب اللبنانية وانتخاب الرئيس إلياس الهراوي، عملت السلطة اللبنانية على استعادة السيطرة على الأرض. عندما رفض الفلسطينيون العودة إلى داخل المخيم وتسليم الأسلحة الثقيلة حصلت مواجهة مع الجيش اللبناني في تموز 1991، نجح خلالها الجيش في ردهم إلى داخل حدود المخيم مستفيداً من دعم سوري مباشر، في ظل استمرار الصراع بين النظام السوري ورئيس منظمة التحرير الفلسطينية وياسر عرفات. فالنظام السوري الذي دعم الانشقاق عن حركة “فتح” في البقاع والشمال، وسيطر من خلال التنظيمات الفلسطينية المحسوبة عليه على مخيمات المنطقتين، حاول القضاء على نفوذ عرفات في المخيمات في بيروت والجنوب من خلال حركة “أمل”. وبعد أن فشلت الحركة في تحقيق هذا الأمر، نجح الجيش السوري في فرضه بعد عودته إلى بيروت في شباط 1987. وبعد العام 1990 حاول أن يضع حداً لنفوذ عرفات في الجنوب في مخيمي عين الحلوة قرب صيدا والرشيدية قرب صور. منذ ذلك التاريخ طوق الجيش اللبناني المخيم، ولكنه لم يدخل إليه ولم ينفذ شرط تسليم السلاح، لذلك تحول المخيم الى ملجأ للمسلحين الفارين من وجه العدالة. لجأ إليه مثلاً منفذو عملية اغتيال رئيس “جمعية المشاريع الخيرية الاسلامية” الشيخ نزار الحلبي في العام 1996. وبعد أن انكشفت العملية وأوقف عدد من المشتركين فيها، وتبين أنهم ينتمون إلى “عصبة الأنصار” التي يتزعمها الشيخ أبو محجن، عبد الكريم السعدي، وكان اسمه يظهر للمرة الأولى بهذا الشكل مع هذا التنظيم، توارى أبو محجن ولم تنجح محاولات اعتقاله بعد أن سُرّب قصداً أنه خرج من المخيم. وعقب أحداث الضنية في مطلع الألفية الثانية بين الجيش اللبناني والمجموعات الأصولية، وبعد سيطرة الجيش على الوضع، تمكن مسلحون كثيرون من التنظيمات الأصولية من الانتقال إلى مخيم عين الحلوة ليأخذوا اسم “جماعة الضنية”. ربط نشوء قوة التنظيمات الأصولية في المخيم أولاً بنشوء تنظيم “القاعدة” وبالعلاقة مع أسامة بن لادن، خصوصاً أن معلومات كانت أشارت إلى ارتباط “عصبة الأنصار” به في قضية اغتيال الحلبي، إضافة إلى اتهام عدد من القيادات الفتحاوية في المخيم بتأمين الغطاء للأصوليين من خلفيات أصولية أيضاً. خلال هذه المرحلة كان بدأ تمدد حركتي “الجهاد الإسلامي” و”حماس” اللتين دخلتا بقوة إلى المخيم على حساب الترهل الذي أصاب حركة “فتح”، بعد عودة عدد كبير من مقاتليها إلى الضفة الغربية اثر عودة عرفات في أعقاب “اتفاقات أوسلو”.

بعد انسحاب الجيش الاسرائيلي من لبنان في العام 2000 برز تخوف لدى “حزب الله” من “فتح”، نتيجة الخلاف مع عرفات حول موضوع السلام مع إسرائيل. ولذلك دعم الحزب حركتي “الجهاد” و”حماس” وبعض التنظيمات الأصولية الصغيرة داخل المخيم. بعد بدء الحرب في سوريا ووقوف “حماس” ضد النظام السوري حاول الحزب التقرب من “فتح”، وكان هناك خوف لديه من أن يستخدم السلاح الفلسطيني ضده في لبنان نتيجة عاملين:

– خوف “حزب الله” من السلاح الفلسطيني برز بعد اغتيال الرئيس رفيق الحريري واتهام الحزب بالعملية واحتقان الصراع السني – الشيعي في لبنان، والتحذير من فتنة مذهبية يكون السلاح الفلسطيني وقوداً لها، خصوصاً أن عمليات انتحارية كثيرة انطلقت مع منفذيها من مخيم عين الحلوة ومن مخيم الرشيدية في العامين 2012 و2013 إثر مشاركة “حزب الله” في الحرب في سوريا واحتلاله مدينة القصير في القلمون السوري وتهجير أهاليها.

– المواجهة التي خاضها في مخيم اليرموك في سوريا ضد النظام والانتماء المذهبي السني لأكثرية الفلسطينيين. اندلعت في آب 2015 اشتباكات بين قوى مسلحة داخل المخيم، ما أدى إلى مقتل عدة أشخاص وجرح تسعمئة آخرين ونزوح أكثر من ألف من سكانه، وتوجه كثير منهم إلى مخيمات فلسطينية أخرى أو إلى منازل أقاربهم في مدينة صيدا المجاورة. وقد عززت حالة التوتر المحيطة بالمخيم المخاوف من تكرار تجربة مخيم نهر البارد الذي دمر بالكامل إثر معارك استمرت عدة أشهر بين القوى الأمنية اللبنانية وتنظيم “فتح الإسلام” عام 2007. وعلى إثر هذه الاشتباكات علت أصوات داخل المخيم تدعو إلى خروج سكانه إلى صيدا وهو ما يعني عملياً إخلاءه ليكون منطقة عسكرية، لكن فصائل فلسطينية عديدة أطلقت دعوة مضادة اعتبرت فيها أن الخروج من المخيم “خيانة وطنية لفلسطين”.

منذ ذلك الحين، وعلى الرغم من كل الدعوات الى عدم إستخدام السلاح الفلسطيني داخل لبنان، وبالتالي عدم توظيفه في خدمة أي طرف داخلي وخارجي، فإن هذا السلاح بقي متفلتاً ومستخدماً لتصفية حسابات فلسطينية وغير فلسطينية، ما يجعل المخيم بصورة دائمة عبارة عن “برميل” بارود متفجر، على حساب أمن قاطنيه وسلامتهم، وعلى ما تبقى من “أطلال” القضية الفلسطينية!

شارك المقال