رصاصات عوكر… “أبو عدس” آخر؟

أنطوني جعجع

هل نحن أمام “أحمد أبو عدس” آخر، أم أن ما جرى أمام السفارة الأميركية في عوكر كان فعلاً مجرد “لحظة غضب” من “عامل توزيع” لبناني يدعى محمد .خ انتفض لكرامته بعد اشكال مع أحد موظفي الحصن الديبلوماسي الكبير؟

وليس المقصود هنا الاصرار على أن ما جرى كان عملية متقنة ومقصودة نفذتها ايران عبر “حزب الله” أو نفذها تنظيم “داعش” أو رجال الاستخبارات الروسية أو أي فريق آخر يخوض مع الولايات المتحدة صراعاً ما أو تحديات ما على مستوى الكرة الأرضية كلها تقريباً.

بل المقصود القول: اذا كان “عامل توزيع” مسكين قادر على أن يحمل سلاحه الفردي الى “قلعة عوكر” ويطلق النار على مدخل ثاني أكبر سفارة أميركية في العالم وواحدة من أعتى القواعد المروحية في المنطقة، فماذا يمكن أن يفعل تنظيم محترف، يملك من التدريبات والقدرات والامكانات ما يمكنه من العودة الى الوراء نحو العام ١٩٨٣ عندما دمر مقر “المارينز” في القسم الشرقي من بيروت مودياً بمئتين وأربعة وأربعين جندياً أميركياً، ونحو العام ١٩٨٤عندما دمر السفارة الأميركية في عين المريسة ثم في عوكر مودياً بعشرات القتلى والجرحى؟

والمقصود أيضاً السؤال: أين تدرب محمد .خ على اطلاق النار؟ ومن أين جاء بالمال لشراء السلاح؟ وكم مرة عرج، بحكم وظيفته، على السفارة الأميركية وحصل على ما يكفي من معلومات دقيقة وحساسة تخوّله الوصول اليها، لا بل الاعتداء عليها في لحظات خاصة يكون فيها بعيداً من المراقبة أو دائرة الخطر؟

سؤالان يراودان المحققين والخبراء، وسط أجواء توحي بأن الجاني والمجني عليه اتفقا في ما يبدو على اعتبار الأمر مجرد حادث عرضي و”يا دار ما دخلك شر” لسبب غير معلن قد يكون حرصاً موقتاً على عدم الدخول في صراع مباشر، أو قد يكون اكتفاء الأول بتمرير الرسالة بنجاح واكتفاء الثاني بتلقيها وفك رموزها والغوص في أهدافها وتداعياتها في انتظار رد الفعل المناسب.

وأكثر من ذلك، لا بد من سؤال جوهري، لماذا لا يكون من أطلق النار عنصراً خفياً في أحد التنظيمات المتشددة ومنها تنظيمات متحالفة مع ايران التي تخوض مع أميركا صراعاً مريراً يفرمل امتداد “الثورة الاسلامية” ويمنع قيام “هلال شيعي” مستقر ومتماسك يمتد من طهران الى البحر المتوسط؟ ولماذا لا يكون محاولة لافهام الأميركيين أن لا مكان آمناً لهم في لبنان سواء ضمن الخارطة الحالية أو ضمن أي نظام فديرالي أو لامركزي لا فرق؟

وأكثر من ذلك أيضاً، لماذا لا يكون ما جرى تحذيراً من السعي الحثيث الذي تبذله واشنطن لتطبيع العلاقات الديبلوماسية والاقتصادية بين اسرائيل والسعودية؟ ولماذا لا يكون تحذيراً آخر من مغبة السماح للرياض بدخول النادي النووي في مواجهة الطموحات النووية الايرانية؟

وأكثر من ذلك أيضاً وأيضاً، تذهب مصادر ديبلوماسية غربية بعيداً الى حد السؤال: لماذا لا تكون الاستخبارات الروسية مثلاً متورطة في عملية تشكل رداً على أمرين أساسيين، الأول التورط الأميركي المباشر في أوكرانيا التي تتقدم في هجومها المضاد، والتشكيلات التي ترعاها موسكو من عناصر “حزب الله” و”الحرس الثوري” للعمل على طرد القوات الأميركية التي تدعم بدورها “قوات سوريا الديموقراطية” (قسد) وتقوم باستفزازات شبه يومية في الأجواء السورية وتحديداً فوق القواعد العسكرية الروسية في سوريا؟

أسئلة كثيرة وتحليلات متنوعة قد يكون بعضها في محله وقد يكون بعضها مضخماً، لكن الحقيقة الساطعة وراء رصاصات عوكر، أن أمن السفارة الأميركية هش الى درجة السماح باعادة عقارب الساعة الى الوراء وتكرار تجارب الثمانينيات التي تمكنت فيها ايران بدعم الاتحاد السوفياتي آنذاك من طرد قوات “حلف الأطلسي” من بيروت وبعدها القوات الاسرائيلية نحو الشريط الحدودي في الجنوب.

والحقيقة الساطعة الأخرى أن أمن لبنان ليس محل ثقة وشكل نوعاً من الخيبة لدى الدوائر الأميركية التي تعوّل على المؤسسات الأمنية اللبنانية وفي مقدمها الجيش لتشكل نداً صلباً ومتماسكاً في مواجهة “دويلة حزب الله”.

وسط هذا الجو المتشعب، يلفت مصدر ديبلوماسي الى أن الكلام عن عملية نفذها “عامل توزيع” يملك هذا القدر من الجرأة والترصد والحرفية، تشبه ما حاول النظام السوري تمريره بعد اغتيال الرئيس رفيق الحريري، أي اختراع شخصية مغمورة ومجهولة هي شخصية أحمد أبو عدس الذي تلطت خلفه شخصية أخرى هي أحمد عياش الذي أخفى بدوره شخصيات أخرى تبدأ في طهران ودمشق وتنتهي في الضاحية الجنوبية.

ويختم: لا أصدق أن السفيرة الأميركية دوروثي شيا تصدق الرواية اللبنانية، لكنها تجد نفسها أمام خيارين صعبين: اما ابتلاع الحقيقة التي تؤكد أن أمن سفارتها هش الى حدود السخرية وهو أمر لا يمكن أن يمر محلياً واقليمياً ودولياً، واما الذهاب بعيداً في مجاهراتها واتهاماتها وهي القائلة قبل أشهر: “نحن هنا لنبقى”.

وحده محمد . خ يعرف الحقيقة، لكن التجارب المماثلة في لبنان علمت الرأي العام أن ثمة خيوطاً خاصة ممنوعة من الوصول الى سنانيرها فتقطع في منتصف الطريق، فهل كتب على لبنان أن يترك لنفسه مهمة طمس الحقائق ويترك للآخرين مهمة كشفها؟

شارك المقال