“الطوفان”… هل وقعت ايران حيث وقع صدام؟

أنطوني جعجع

قد يكون من المبكر جداً التكهن بما يمكن أن يصل اليه “طوفان الأقصى”، وما يمكن أن يصل اليه الرد الاسرائيلي المضاد، لكن الواضح أن ما جرى ويجري في غلاف غزة يشكل نسخة منقحة عما أصاب “البرجين” في نيويورك في “الحادي عشر من أيلول” العام ٢٠٠١، وقد يتحول أيضاً الى نسخة عن الموقف الذي دفع الأميركيين الى رد حتمي أصاب العراق أولاً وأسقط صدام حسين ثم أصاب أفغانستان ثانياً وأسقط “القاعدة” وحركة “طالبان”.

لكن هناك فارق واحد بين الحدثين يتمثل في أن الرئيس الأميركي حينذاك جورج بوش لم يكن بحاجة الى اسرائيل في ذلك الرد المزدوج، خلافاً لرئيس الوزراء الاسرائيلي بنيامين نتنياهو الذي وجد نفسه فجأة وسط دائرة معادية تضربه في العمق ومن الأطراف وتدفعه الى توجيه ما يشبه نداء استغاثة في اتجاه عرابه الأميركي يشبه النداء الذي أعقب “حرب تشرين ” العام ١٩٧٣.

النجدة لم تتأخر كثيراً اذ حركت أميركا أكبر حاملة طائرات في العالم الى المتوسط، في خطوة موجهة نحو ايران و”حزب الله” وتفيد بأن مواصلة الحرب داخل اسرائيل أو شنها من الخارج، سيكونان حرباً على الولايات المتحدة نفسها، ملمحة الى أن سقوط اسرائيل ممنوع وسيعني بالتالي سقوط أعتى وأمتن قواعدها العسكرية والاستراتيجية والسياسية والمخابراتية في الشرق الأوسط.

والواقع أن ما دفع الأميركيين الى التلويح بالتدخل عسكرياً أربعة أمور جوهرية: الأول تأمين قوة عسكرية ضخمة في شرق البحر المتوسط اضافة الى مياه الخليج للتصدي لأي تحرك من “حزب الله” لفتح جبهة الجنوب، وثانياً لاحتواء أي خطة من ايران لتحريك جبهة اليمن بهدف تحذير السعودية من مغبة التطبيع مع اسرائيل، والثالث الحؤول دون فتح مخازن الأسلحة النووية الاسرائيلية واستخدامها في معركة تعتبرها معركة وجود، والرابع الخوف من تأثير الحرب على موارد الغاز التي تحتاج اليها أوروبا على أبواب الشتاء.

وثمة أمر آخر تحرص عليه واشنطن وهو منع ايران من تهديد الاستراتيجيات الغربية في المنطقة كما تحاول أن تفعل في أوروبا من خلال دعم الجيش الروسي في حرب أوكرانيا، أو تمكينها من تحقيق نصر عسكري يعزز موقفها في المفاوضات النووية المعقدة.

والواقع أن الأميركيين يعرفون أن “حزب الله” ليس بريئاً مما جرى في غلاف غزة، وأن ايران ليست جمعية خيرية تعطي من دون مقابل، وأن “حماس” ليست منظمة مستقلة تتفرد بقراراتها الى الحد الذي يسمح بتنفيذ عملية عسكرية تتجاوز الخطوط الحمر، وقد تدفع الشرق الأوسط اما الى حرب اقليمية شاملة، واما الى حرب تعيد غزة الى ما قبل العام ٢٠٠٥ أي العام الذي أنهى فيه الجيش الاسرائيلي سيطرته على القطاع.

والواقع أيضاً أن ما جرى في مستوطنات الغلاف الغزاوي، يقود الى أمرين: الأول أن “حماس” تلقت تدريباً احترافياً صاعقاً لا يجيده الا “حزب الله”، وأن الصدمة التي تلقتها اسرائيل لم تبقِ أي مجال للحلول الرمادية ولا أي نية لاتباع أسلوب الحروب المؤجلة.

لكن الأسئلة التي يطرحها المراقبون: لماذا الآن؟ ولماذا بهذا الحجم؟ وماذا فعلت اسرائيل سراً كي تتلقى علناً رداً دموياً غير مسبوق؟ وما هو دور ايران ومعها “حزب الله” في عملية طالما لوّح الطرفان بامكان تنفيذها في مستوطنات الجليل القريبة من حدود لبنان وليس في عمق اسرائيل؟ وهل فقدت ايران في قصف الكلية الحربية السورية في حمص أخيراً “ضيفاً” رفيعاً لم تكشف هويته أو رتبته بعد؟ وهل هناك أمر كبير وخطير استعجل الانتقال من حروب القصف الموسمية الى حروب الاقتحامات المباشرة خلف خطوط العدو؟

يجمع المراقبون العسكريون والسياسيون على أن هناك الكثير من الحقيقة في هذه الأسئلة، لكن أياً منها لا يستوجب جر المنطقة الى حرب شاملة، مؤكدين أن “حماس” نفذت بتكليف ضمني من ايران عملاً عسكرياً هائلاً لمنع أو لجم “عمل سياسي هائل” يدور في أفق المنطقة ويقترب من الانجاز.

هذا العمل السياسي الهائل، وفق بعض هؤلاء يتمثل في وجود رغبة في تطبيع العلاقات بين السعودية واسرائيل، وهو أمر ألمح اليه مشروطاً ولي العهد الأمير محمد بن سلمان وأكدته كل من تل أبيب وواشنطن التي تبحث للرئيس جو بايدن عن انجاز خارجي كبير قبيل الانتخابات الرئاسية الأميركية. لكن البعض الآخر يستبعد هذا الدافع، قائلاً: لو أرادت ايران أن تمنع ذلك لكانت حركت جبهة اليمن في لحظة وأربكت السعودية وكل الدول الخليجية التي طبعت علاقاتها مع الدولة العبرية، على الرغم من اقتناعها بأن أي تطبيع بين الرياض وتل أبيب سيعني انتهاء الصراع العربي – الاسرائيلي وسحب الورقة الفلسطينية من قبضة الأئمة في طهران.

وما لم يجب عليه المراقبون والمحللون، كشفه الى حد ما مصدر قريب من قوى الممانعة عندما قال إن ايران أعطت السعودية “سلاماً” مع اليمن، وأعطت الجامعة العربية رئيساً سورياً “مستعداً” للتعاون معها في مجالات عدة، وأطلقت رهائن أميركيين، وساعدت في رسم الحدود البحرية بين لبنان واسرائيل، ولم تسهم عملياً في ضخ النازحين السوريين في المجتمعات الغربية، من دون أن تتلقى في المقابل أي ثمن يعتد به، سواء من الرياض التي قطعت الطريق على مرشحها الرئاسي في لبنان سليمان فرنجية، ومنعت تعديل الطائف أو تحريفه، أو من أميركا التي أبقت عقوباتها على الاقتصاد الايراني، أو من الجامعة العربية التي انفتحت مجاناً على الرئيس بشار الأسد بعد وعود منه بوقف تهريب الكبتاغون نحو الخليج والحد من النفوذ الايراني في بلاده، أو من اسرائيل التي أخذت الحصة الأكبر من اتفاق الترسيم البحري في لبنان وتشددت في ملف الترسيم البري.

والواقع أن ايران التي رصدت أجواء قرار أميركي – اسرائيلي لقصف منشآتها النووية، أرسلت قبل هجوم غزة اشارات مفخخة عدة لتحذير من يعنيه الأمر من مغبة التمادي في تهديدها وحشرها واستفزازها، فأطلقت “البروفا” الأولى في مخيم عين الحلوة عندما حركت “المنظمات الاسلامية” ضد حركة “فتح”، تمهيداً للتخلص من أي تنظيم يوالي السلطة الفلسطينية في رام الله، وحوّلت ملف النزوح السوري في لبنان الى نوع من الغزاة المحتملين في اتجاه الغرب والغزاة العمليين في اتجاه المعارضة اللبنانية وتحديداً المسيحية والسنية منها، وشكلت جبهة من “حزب الله” و”حماس” و”الحرس الثوري” للعمل على طرد القوات الأميركية من سوريا والعراق، وزودت روسيا بما تحتاج اليه من أسلحة مؤثرة، وحركت “حزب العمال الكردستاني” المنتشر في ايران وسوريا والعراق ولبنان في مواجهة تركيا التي ترفض الانسحاب من سوريا، ودعمت العشائر العربية في مواجهة “قوات سوريا الديموقراطية” (قسد) المدعومة من الجيش الأميركي وتخلت ضمناً عن دعم الأرمن في ناغورني كاراباخ بعدما تقربت يريفان من الادارة الأميركية.

لكن الرسالة الأكثر دلالة على الاستفزازات الايرانية كانت من دون أي تردد أو تحفظ، اطلاق النار على السفارة الأميركية في عوكر، وهي الرسالة التي حاول اللبنانيون “تسخيفها” وحاول الأميركيون طمسها.

وسط هذا المشهد، لم يعد السؤال متى تنتهي المواجهة بين اسرائيل و”حماس” في غلاف غزة، بل متى يبدأ الرد الاسرائيلي وأين وكيف وضد من، وبالتالي من ينتصر فيها أو يحقق أكبر قدر من المكاسب والنقاط؟

هل يكون غزواً برياً مجنوناً لاستعادة قطاع غزة وتدمير حركة “حماس” تماماً كما فعلت مع ياسر عرفات في حرب العام ١٩٨٢؟ هل يكون حرباً في البر والجو والبحر مع “حزب الله” في لبنان لا يوفر أي هدف قائم؟ هل يكون غارات جوية مدعومة من أميركا لتدمير الأسطول البحري الايراني وقصف البنى التحتية والمنشآت النووية والعسكرية في ايران؟ وهل يكون كل ذلك دفعة واحدة، بحيث تشهد المنطقة آخر حروبها وأقساها على الاطلاق؟

لا أحد يملك كلمة السر الا اسرائيل وأميركا وحدهما، لكن الجميع باتوا يعرفون أن اسرائيل في موقع يضعها أمام خيارين لا ثالث لهما: اما الرد في شكل ساحق تستعيد به هيبتها واما الاقرار بالهزيمة والذهاب الى حل الدولتين، وباتوا يعرفون أيضاً أن ايران لا يمكن أن تخفي أصابعها مما جرى، مؤكدين أن ما فعلته يشبه الى حد كبير، ما فعله صدام حسين عندما غزا الكويت وداس على لغم أدى الى اطاحته.

في الانتظار، ليس سراً أن اسماعيل هنية سرق الضوء من حسن نصر الله وحقق ما لم يحققه كل العرب على مدى ٧٥ عاماً.

وفي الانتظار أيضاً، على اللبنانيين أن ينسوا موضوع الرئاسة حت اشعار آخر، وأن يتوقف المنقبون عن أعمال الحفر في الحقل التاسع، ولينتظروا معاً النتيجة النهائية لمعركة غزة وما بعدها، وكذلك النتيجة النهائية لمعركة الرئاسة الأميركية بين رئيس متعثر هو جو بايدن ورئيس مجنون قد يكون دونالد ترامب أو قد يكون سواه.

شارك المقال