كيف يتفاعل اللبنانيون مع “طوفان الأقصى”؟

جورج حايك
جورج حايك

لا ينظر اللبنانيون إلى معركة “طوفان الأقصى” بعين واحدة، وهذا أمر طبيعي في بلد تعددي، يشهد انقساماً سياسياً عمودياً كبيراً، بل تتنوّع فيه العقائد والرؤى السياسية والمقاربات انطلاقاً من تموضع الأحزاب والطوائف.

لكن لا شك في أن جميع اللبنانيين يعترفون بأن حركة “حماس” حققت تفوقاً عسكرياً غير مسبوق على اسرائيل، ولا سيما في اليوم الأول بعدما باغتت الجيش الاسرائيلي واقتحمت المستوطنات، فارضة ايقاعها في المعركة، فيما تبدو اسرائيل مرتبكة ومصدومة ولم تستطع حتى الآن التقاط أنفاسها وقد تجاوز عدد القتلى الـ1000.

طبعاً يعيش الشارع اللبناني حمى هذه المعركة بحماسة متفاوتة ولاعتبارات ثقافية وعقائدية وسياسية مختلفة.

تبدو بيئة الثنائي الشيعي الأكثر انصهاراً في المعركة، فهي معنيّة بها لأنها تعتبر القضية الفلسطينية، بالمانيفستو، من الأولويات في محور الممانعة، ويعتقد هذا الجمهور بـ”وحدة الساحات” ويبدو متحمساً للدخول في المعركة عسكرياً من بابها الواسع، نظراً إلى التعبئة الفكرية التي عمل عليها “حزب الله” منذ فترة طويلة، والعداء الكبير لاسرائيل، إلى درجة الاستعداد لازالة هذا الكيان أو رميه في البحر، وفق ما تعتقده هذه البيئة!

وقد شهدت مناطق هذه البيئة مثل الضاحية الجنوبية لبيروت وبعلبك والجنوب إطلاق المفرقعات النارية ابتهاجاً ووزّعت الحلويات في الطرقات وسارت مسيرات في الشوارع رفع المشاركون فيها الأعلام الفلسطينية وأعلام “حزب الله”، فيما شهد الجنوب على الحدود المحاذية لاسرائيل مسيرات على الدراجات النارية، ما استفز الجنود الاسرائيليين وأدى إلى احتكاكات محدودة.

تتفاعل هذه البيئة عاطفياً من دون حسابات سياسية وعسكرية، وقد أبهرها أداء “حماس” المقاوم وجرأتها وخصوصاً أنها مدعومة بالسلاح والمال من إيران، وتتحدث عن قدرة “حزب الله” على ملاقاتها في منتصف الطريق من خلال توغّل بري عبر كتيبة “الرضوان” أو قوات النخبة، فيما “الحزب” يفكّر براغماتياً ويحسبها استراتيجياً وفق مصلحة إيران ومحور الممانعة ككل!

لا شيئ اسمه “حياد” لدى هذه البيئة، بل ان الحدود مفتوحة بين دول محور الممانعة، وهي تجد نفسها مع “حماس” في خندق واحد ضد اسرائيل العدوّة، ومستعدة لكل التضحيات في أي حرب لدعم الفلسطينيين ولو على حساب استقرار لبنان، فالمقاومة والحروب والسلاح جزء من أدبيات هذه البيئة وثقافتها، والبعض يعيشها ببراءة خلافاً لـ”الحزب” الذي يعمل وفق أجندة إيرانية.

لا تقل البيئة السنيّة في لبنان حماسة عن بيئة الثنائي الشيعي، فهي تعتبر فلسطين القضية المركزية وهذا ما يشمل كل الوجدان العربي، وتأييدها ليس لمنظمات وفصائل بقدر ما هو تأييد لمقاومة الشعب الفلسطيني، وانطلاقاً من هذه الاعتبارات صفقت هذه البيئة طويلاً لما فعلته “حماس” يوم 7 تشرين الأول الجاري، وخصوصاً ان أدبيات هذه البيئة تعتبر اسرائيل مغتصبة للأرض، والمقاومة لتحرير فلسطين مقدّسة من أي طرف فلسطيني سواء كانت السلطة الفلسطينية أو الفصائل كـ “حماس” و”الجهاد الاسلامي” وغيرهما. وقد تفاعلت هذه البيئة في مدن طرابلس وصيدا وبعض أحياء بيروت حيث سادت مظاهر الفرح والتضامن ورفعت المساجد التكبيرات ووزعت الحلوى أيضاً في الشوارع.

لا يختلف اثنان على أن الجمهور السنّي في لبنان عاطفي جداً، ويتفاعل عفوياً، ولا أحد ينسى أن البيئة السنية قدّمت الغالي والنفيس خلال الحرب اللبنانية من أجل القضية الفلسطينية، لكن بعد اتفاق الطائف، حصلت مراجعة ذاتية للزعماء السنّة، بحيث تقدّم شعار “لبنان أولاً” على كل الشعارات، وبقيت النزعة الثقافية لدى “السُنّة” متضامنة مع فلسطين، لكن ليس على حساب لبنان، وبالتالي لا تؤيد هذه البيئة توجّهات “حزب الله” ومعادلة “وحدة الساحات” وباتت تعرف أن الأوضاع الاقتصادية والمالية والمعيشية في لبنان لا تحتمل أي مغامرات عسكرية. وما تفعله المقاومة الفلسطينية في الأراضي المحتلة بالنسبة الى هذه البيئة كافٍ وواف.

أما المزاج العام المسيحي، على الرغم من تنوّع أحزابه وتياراته، فيترقّب بحذر ما يحصل بين اسرائيل و”حماس”. صحيح أن البعض يرى أن قضية الفلسطينيين محقة، إلا أن أكثرية هذه البيئة ترى أن لبنان غارق في مشكلات وأزمات لا تُحصى، وبالتالي الصراع في غزة لا يأتي بأولوياتها، إلا من باب الريبة بأن لا ينعكس على لبنان بسبب حسابات “حزب الله”.

أكثرية المسيحيين ضد أي مغامرة يقوم بها “الحزب” لتوريط لبنان، وخصوصاً أنها لا تثق بتبعية “حماس” لإيران وتتوجّس من تنفيذها لسيناريو ظاهره القضية الفلسطينية وباطنه أهداف استراتيجية ايرانية.

يؤمن المسيحيون بالحياد الذي حمى لبنان وجنّبه الويلات والكوارث وعدم الاستقرار بين عامي 1943 و1975 قبل أن يتحوّل إلى ساحة لكل عابر سبيل، أو حامل عقيدة موت، أو ايديولوجيا عنف، أو معقّد من الحياة وقرّر الانتقام منها في لبنان. فالحياد ينسجم مع فهم عميق لتركيبة لبنان التعددية، فلا سيادة في لبنان من دون حياد، ولا دولة في لبنان من دون حياد، والمدخل لاستعادة السيادة والاستقرار ودور الدولة يكمن في إعادة العمل بالحياد.

تضامن المسيحيين مع الشعب الفلسطيني يقف عند حدود مصلحة الدولة اللبنانية، ولا قضية في العالم تتقدّم على القضية اللبنانية! وهنا جوهر خلاف أكثرية البيئة المسيحية مع “حزب الله”.

ومع اندلاع حرب غزة في 7 تشرين الأول الجاري، أطل صوت “نشاز” هو صوت رئيس “التيار الوطني الحر” جبران باسيل ليوزّع شهادات على البعض بالانتماء إلى القضية الفلسطينية ويقصد محور الممانعة وتياره من جهة وتخوين البعض الآخر، معتبراً أن هذا “البعض” يفرح لفوز اسرائيل ويحزن لانتصار المقاومة.

لا شك في أن تقويم باسيل لنفسه باطل ولا قيمة له، لأنه مصنّف من التجّار بقضايا الشعوب وحتماً مواقفه لا تمثّل الوجدان المسيحي اللبناني.

شارك المقال