ايران… اما الحرب واما رأس غزة!

أنطوني جعجع

سياسة الانتظار لم تعد تخدم أحداً، لا اسرائيل، ولا الولايات المتحدة، ولا ايران، ولا “حزب الله”، ولا أي طرف إقليمي أو دولي على ارتباط مباشر بما يجري في قلب الدولة العبرية وأطرافها.

ويعرف كل هؤلاء، أن التمهل في دخول مرحلة الحسم لا القضم، يهدد بتحويل الحرب الى حرب استنزاف عبثي وقاتل، ويعرفون أيضاً أن أي خطأ في الحسابات لن يكون هذه المرة مسألة يمكن ترميمها أو تجاوزها كما جرت العادة منذ سقوط فلسطين في العام ١٩٤٨.

لكن المنطق في كل هذا لا يجد له مكاناً ملموساً، في وقت تعرف اسرائيل أن القذائف التي أخذت مكانها في الفوهات لم يعد من الممكن سحبها، وأن التراجع عن خيار الحرب يعني التخلي عن القوة التي أنشأتها قبل ٧٥ عاماً، والقوة التي تبقيها قائمة في هذه المنطقة المفخخة، وتعرف أميركا أن هزيمة اسرائيل تشبه نكستها في بيروت، وهي النكسة التي فتحت الباب أمام ايران للتمدد في الشرق الأوسط ونشر أذرعها العسكرية في أكثر من مكان.

وتعرف حركة “حماس” أنها دفعت غزة الى معركة لا يمكن الا أن تكسبها أو تصمد فيها على الأقل، لأن عكس ذلك سيكون المنفى في أفضل الأحوال والزوال في أسوأ الأحوال.

وتعرف ايران ومعها “حزب الله” أن الانتظار يعني ثلاثة أمور أساسية، الأول أنه يسهم في إنهاك حركة “حماس” ويجعل سقوطها أمراً وارداً، والثاني أنه سيجرها حكماً الى فتح الجبهات والدخول مباشرة في حرب اقليمية مكلفة طالما سعت طويلاً الى خوضها بالواسطة، والثالث أن الامتناع عن القتال سيضرب مصداقية “الثورة الاسلامية” في العمق، ويجرّدها من الورقة “الجهادية” الفلسطينية، لمصلحة “عرب الاعتدال”.

وتعرف الدول العربية أن الوضع المأسوي في غزة وسياسة الأرض المحروقة حجراً وبشراً، يضعانها أمام ثلاثة أمور أساسية، الأول الدخول في مواجهة عسكرية مباشرة مع الدولة العبرية وهذا أمر غير وارد اطلاقاً، والثاني ضرب علاقاتها الاستراتيجية مع الولايات المتحدة المنحازة في هذا الظرف بالذات، وهو أمر يحمل الكثير من المخاطر والألغام، الى جانب الاحتكاك السلبي المباشر مع قواعدها الشعبية، والثالث معايشة جولة جديدة من التهجير الفلسطيني الذي يمكن أن يفخخ عملية السلام، ويلقي بثقله على عدد منها ولا سيما دول الجوار.

وقد يتفاجأ البعض اذا عرفنا في العمق أن أكثر الأطراف احراجاً في هذه الحرب، هي الولايات المتحدة التي وجدت نفسها فجأة أمام شبكة مفخخة على مستوى الكرة الأرضية نسَجَها في ما يبدو “محور ثلاثي” يضم روسيا والصين وايران.

وفي قراءة للخارطة العالمية في الوقت الحاضر، يتبين أن ما جرى في غلاف غزة قبل أكثر من أسبوعين أطلق أو هدد باطلاق أربعة انشغالات عسكرية دفعة واحدة: الأول الجبهة الاقليمية حيث تواصل أميركا ضخ قوات بحرية وجوية وبرية يعتد بها لدعم اسرائيل من جهة وردع ايران من جهة ثانية، وهو ما بدأ يظهر تباعاً من خلال مناوشات متقطعة بين قواتها وحلفاء ايران في سوريا والعراق واليمن، والثاني الجبهة الأوكرانية حيث اضطرت الى تقليص مساعداتها العسكرية للجيش الأوكراني الذي يمكن أن يفقد الكثير من زخمه أمام الجيش الروسي، والثالث الجبهة الصينية بحيث تتخوف واشنطن من أن تستغل بكين ما يجري في غزة وتنقض على تايوان، معتبرة أن تشتت القوة العسكرية الاميركية سيكون أمراً مساعداً، والرابع هو الجبهة الكورية حيث تبدو كوريا الشمالية المدعومة من روسيا والصين مستعدة لالهاء حلفاء أميركا أي اليابان وكوريا الجنوبية.

وثمة جبهة خامسة هي الجبهة الداخلية حيث يجهد الرئيس جو بايدن لتحقيق مكسب خارجي ثمين يساعده على ضمان ولاية رئاسية ثانية.

حتى الآن، لا تزال أميركا خارج الصراعات المباشرة، وتجهد وراء ثلاثة أمور أساسية هي أولاً اطلاق رهائنها المحتجزة لدى “حماس”، وثانياً الحؤول دون فشل الهجوم البري المرتقب في غزة، والحؤول ثالثاً دون امتداد الحرب، وسط تقارير تفيد في المقابل بأن الصين وروسيا تمنعتا حتى الآن على الأقل، عن استغلال الانشغال الأميركي في الشرق الأوسط تخوفاً ربما من حرب عالمية نووية، واكتفتا بالتفرج على التجربة الايرانية وما قد ينتج عنها من نتائج ايجابية أو سلبية.

والواقع أن ايران أدركت أنها تركت وحدها في الحرب مع أميركا، واضطرت الى اتباع استراتجية العصا والجزرة في محاولة للخروج من مأزق غزة بأقل قدر من الخسائر، وذلك بعد ظهور تنازلات عدة تتوخى منها تحاشي حرب مباشرة مع الجيش الأميركي، والسعي مع واشنطن ضمناً الى منع الهجوم البري على القطاع خشية أن يسقط في قبضة اسرائيل التي تسعى الى وضعه في عهدة السلطة الفلسطينية أو أي سلطة تعمل لتسهيل عملية السلام العربية – الاسرائيلية، في مقابل تحييد الساحات لا توحيدها.

ومن هذه التنازلات اطلاق رهينتين أميركيتين تحت شعار “الضرورات الانسانية”، والتلويح باطلاق آخرين، والامتناع عن أي عمل عسكري جدي يمكن أن يصطدم مع الجيش الأميركي وتحديداً على الجبهة اللبنانية، وحصر المناوشات في مناطق بعيدة ليست على تماس قريب مع إسرائيل.

لكن الحسابات التي تجرى عادة على حافة الهاوية لا يمكن أن تصح دائماً، اذ ان ما يجري في الشرق الأوسط بعد أسبوعين على “طوفان الأقصى”، يشير الى أن فترة الانتظار باتت في لحظاتها الأخيرة، وأن “الجنون” الاسرائيلي الذي يضرب في غزة وسوريا ولبنان، لا بد من أن يجر الجميع الى الحرب تحت شعار “علي وعلى أعدائي”.

ويجمع مراقبون عسكريون واستراتيجيون، على أن أميركا التي قررت ارسال مزيد من القوات والمعدات الى المنطقة، باتت على اقتناع بأن اسرائيل لن تتراجع عن خيار الحسم العسكري، وأن ايران قد لا يمكن أن تهضم سقوط واحدة من أذرعها العسكرية الفاعلة على حدود الدولة العبرية، مؤكدين أن واشنطن تلقت معلومات استخبارية تفيد بأن التصعيد المتدرج من جنوب لبنان يرتبط بما يجري في غزة، بحيث يخف ويشتد ويتفلت حسب المعلومات التي يتلقاها من أنفاق القطاع المحاصر.

ويرى هؤلاء المراقبون، وربما للمرة الأولى منذ دخلت ايران على خط الصراع العربي – الاسرائيلي، أن ما كان يجدي في السابق لم يعد كذلك، مؤكدين أن “خط الممانعة” بات على اقتناع بأن الخيار الوحيد الذي بقي أمامه هو القتال والقتال فقط، لا سيما بعدما أعلن رئيس وزراء اسرائيل بنيامين نتانياهو أن ما يجري في غزة هو “معركة حياة أو موت” رافضاً وقف الحرب في المطلق، وبعدما فشل هول المجازر، كما حدث في جولات سابقة، في كسب تعاطف الرأي العام الدولي الذي بات في ما يبدو مقتنعاً بالمقولة الاسرائيلية التي تفيد بأن لا سلام في الشرق الأوسط قبل الغاء “حماس” وشل “حزب الله” وتحجيم ايران.

ونقل عن مسؤول في خط الممانعة، انسجاماً مع هذا الوضع قوله: “اذا أصبح مقتل الأطفال والنساء والمصلين في نظر العالم الغربي أمراً عادياً، فعبثاً نحاول اقناعه بما نؤمن به ونسعى اليه”، مؤكداً أن ايران وضعت نفسها وحلفاءها أمام واحد من أربعة خيارات: الأول الموافقة على “حل الدولتين” كما ورد في قمة بيروت وبالتالي حل حركة “حماس” و”حزب الله” عسكرياً، والثاني التخلي عن غزة في مقابل البرنامج النووي السلمي ورفع العقوبات، والثالث تسهيل عمليات التطبيع بين العرب واسرائيل، والرابع اما الموت جميعاً من أجل غزة واما موت غزة من أجل الجميع.

حتى الآن لا تبدو ايران في وضع يوحي بأنها حددت خياراتها النهائية، مكتفية بالضرب على أطراف الأميركيين في البر البعيد، ريثما ينجلي غبار غزة عن واقع قد يبقي الهلال الايراني قائماً أو قد يعيده الى طهران.

شارك المقال