هل تفتح جبهة الجنوب؟ (٤)… توازن الرعب العسكري بين واشنطن وطهران

زياد سامي عيتاني

منذ السابع من الشهر الجاري، وبعد تنفيذ عملية “طوفان الأقصى”، إتجهت الأنظار نحو الجنوب اللبناني، مخافة إقدام “حزب الله” على فتح الجبهة مع العدو الاسرائيلي، نصرة لغزة، وتشتيتاً لقدرات جيشه في قصفه الجوي التدميري الابادي لقطاع غزة، وذلك إنطلاقاً من الموقف المعلن من محور الممانعة بوحدة الساحات. وهذا التخوف رفع من وتيرة الاتصالات الديبلوماسية على أعلى المستويات للحؤول دون خروج التوترات عن قواعد الاشتباك، بحيث وجهت رسائل في عدة إتجاهات (لا يخلو بعضها من التحذير)، لتدارك الإنزلاق نحو فتح الجبهة اللبنانية – الاسرائيلية، لما يمكن أن تنطوي عليه من تداعيات خطيرة لا يمكن لأحد تخمين مفاعيلها وتحديدها، خصوصاً مع إعلان الولايات المتحدة عن إرسال حاملة طائرات إلى المنطقة، في رسالة واضحة إلى إيران.

لكن ذلك، لم يمنع في الأيام الأولى من تسخين الأوضاع، مع حرص “حزب الله” وإسرائيل على المحافظة على نمط مستقر من قواعد الاشتباك، بحيث كان يتم تبادل القصف المدفعي عبر الحدود من طرف، ليرد الطرف الآخر بالمثل وبصورة متناسبة يستهدف مصدر النيران. فقد التزم الطرفان بعدم التصعيد خلال الأيام الأولى، وكأنهما تبادلا الرسائل الخاصة برسم قواعد جديدة عبر القصف المتبادل. إذ كان “حزب الله” يقصف الأراضي اللبنانية المحتلة في مزارع شبعا وتلال كفرشوبا، فيرد الجيش الاسرائيلي على مصادر النيران في قرى الشريط الحدودي علما الشعب ورميش والضهيرة وعيتا الشعب. ومع إستمرار حرب الابادة المدمرة في غزة، إرتفعت وتيرة التراشق بالصواريخ والقصف المدفعي، وكأنها مؤشر الى اشتعال حرب أوسع على جبهة حزب الله – إسرائيل.

وعليه، لم يصمد نمط التصعيد المحسوب، إذ سرعان ما أرادت إسرائيل أن تفرض هيمنتها العسكرية على المشهد على حدودها الشمالية، فاستهدفت في اليوم الثامن للمواجهات قرى لبنانية في شرقي مدينة صور وعيتا الشعب وعلما الشعب والضهيرة ورميش. وعلى عكس القصف السابق الذي كان يطال أراضٍ خالية غير مأهولة، بدأ القصف الاسرائيلي على مناطق مأهولة، إذ استهدف تجمعاً للصحافيين في بلدة عيتا الشعب، ما أدى إلى مقتل صحافي يعمل في وكالة “رويترز” وإصابة ثلاثة آخرين منهم مراسلة “الجزيرة”. كما أدى القصف على قرى شرقي صور إلى مقتل مواطنيْن لبنانيين.

وإزاء هذا التصعيد الجديد الذي أوقع ضحايا من الصحافيين والمدنيين، تحرك “حزب الله” بقصف دقيق على موقع الراهب العسكري، فضلاً عن استهداف الحامية العسكرية لمستوطنة شتولا قبل أن يوسع قصفه، ليشمل 5 مواقع عسكرية في الشمال الاسرائيلي ويوقع إصابات دقيقة. وأعلن “حزب الله” في بيان أنه كان يرد بصورة متناسبة على القصف الاسرائيلي وفق قواعد اشتباك مستقرة، ولكن الاستهداف الاسرائيلي لقرى جنوبية مأهولة أدى الى مقتل مدنيين وصحافيين، ما يعني أن الحزب مضطر للتصعيد المقابل وتوسيع استهدافه من مجرد قصف مواقع عسكرية إلى استهداف المستوطنات الشمالية.

ومن ذلك الحين، بدأ الاشتباك بالصواريخ المتبادلة يتصاعد على جانبي الحدود اللبنانية – الاسرائيلية، وطال الرد الاسرائيلي قرى الجنوب بطول الخط الحدودي من العديسة غرباً إلى الناقورة شرقاً مروراً برميش وعيتا الشعب والضهيرة ومروحين وطير حرفا وعلما الشعب، وطالت القذائف مساحات مأهولة من هذه القرى وأوقعت إصابات بالممتلكات والسكان، فيما سقطت بعض القذائف في محيط مقار الجيش اللبناني و”اليونيفيل” وأوقعت بعض الخسائر في الأبنية. وفي المقابل، استمر حزب الله في استهداف مواقع عسكرية إسرائيلية مثل راميم وبرانيت والمالكية وحانيتا فضلاً عن الحاميات العسكرية التي تتمركز في محيط مستوطنات الشمال مثل المطلة وشتولا.

ومع إستمرار التصعيد وإرتفاع وتيرته، هدد رئيس المجلس القومي الاسرائيلي بأن جيشه سيُعيد لبنان إلى العصر الحجري، في حال قامت الحرب بين “حزب الله” وإسرائيل. وفي المقابل، أكد وزير الدفاع الاسرائيلي أن ليس من مصلحة أحد فتح جبهة إضافية في الشمال، قاصداً بذلك الدخول في حرب مع “حزب الله”.

في كل الأحوال، وعلى الرغم من أن اسرائيل تحاول أن تركز جهودها على إعادة ترميم قدرات الجيش وصورته الرادعة والاستعداد للاجتياح المرتقب في غزة، فإنها ترى أن الشمال لن يكون مكشوفاً، خصوصاً مع الدعم الأميركي الكبير، ووصول حاملة الطائرات الأميركية “جيرالد فورد” وتمركزها في شرق المتوسط واتجاه حاملة طائرات أخرى هي “يو إس إس أيزنهاور” لتلحق بالأولى، بالاضافة إلى أنباء عن إمكان إنزال ألفي جندي أميركي في المنطقة لتقديم الدعم لاسرائيل. فالرسالة الأميركية هي حماية الشمال الاسرائيلي في حال تعثرت إسرائيل جنوباً في الاجتياح البري لغزة. من جهتها، كانت طهران حريصة على تأمين غطاء لحليفها في بيروت، ففي زيارة لوزير الخارجية الايرانية حسين أمير عبد اللهيان الى بيروت تزامنت مع زيارة وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن إلى تل أبيب، قال عبد اللهيان ان احتمالات فتح حرب متعددة الجبهات قائمة، ولا بد من الحذر من هذا السيناريو، لأن موقف “حزب الله” الراهن قد يتغير في حال تنفيذ اجتياح بري لغزة. وقد ذهب عبد اللهيان الى أبعد من ذلك، محذراً من أن الحرب القادمة إذا ما اشتعلت فإنها ستُغير شكل الخريطة الراهنة وستكون لها تداعياتها بعيدة المدى.

إذاً، إيران والولايات المتحدة تتبادلان الرسائل حول فتح جبهة لبنان من عدمه، وتنتقل الرسائل من خلال وسطاء مثل سلطنة عُمان التي كانت تتولى الوساطة سابقاً في رفع العقوبات عن إيران. وبالنظر الى الخطوات المترتبة على تصعيد كل طرف، يبدو المشهد مرشحاً للانزلاق إلى حرب متعددة الجبهات، لن تقف فيها إيران مكبلة عن حماية الأذرع العسكرية التي أسستها في المنطقة، ولن تقف فيها الولايات المتحدة عاجزة عن حماية أمن إسرائيل. الخلاصة، أن لعبة التصعيد ماضية إلى خيار دموي ومدمر للغاية، إذا لم يتم تدارك الأمر. فهل يكون توازن الرعب العسكري في المنطقة بين الولايات المتحدة الأميركية وإيران، سبباً لعدم الإنجرار إلى فتح جبهة الجنوب، أو يكون فتيل تفجيرها؟

شارك المقال