موازنة العار… هل ينجح معها الترميم؟

جورج حايك
جورج حايك

من البديهي أن أكثرية الشعب اللبناني لا تعرف بفذلكات الموازنة، إلا أنها تُدرك جيداً أن ما تتضمنه هذه الموازنة لن يكون لمصلحتها، لأن حكومة تصريف الأعمال وضعت كل الأعباء على كاهل المواطن من خلال الضرائب والرسوم على نحو غير متوازن وغير مدروس، هرباً من تنفيذ الاصلاحات وإيجاد الحلول المنطقيّة لتأمين النفقات المتوجّبة عليها.

طبعاً، إنشغل المجلس النيابي طوال ثلاثة أيام بمناقشة الموازنة وأجرى بعض التعديلات “التجميليّة” عليها بناء على تقرير لجنة المال والموازنة، والهدف التوصّل إلى إقرارها على الرغم من التشويه الخُلقي الذي تتضمنه وأبرزه الإمعان في عدم إرفاقها بقطع الحساب تبعاً لهذه المخالفة المتمادية منذ أكثر من عقد، وافتقارها الى الرؤية الاقتصادية والاجتماعية وتدني نسبة الاعتمادات المخصصة للنفقات الاستثمارية والعشوائية في استحداث الضرائب والرسوم والعشوائية في بعض الاعتمادات.

أي دولة في العالم تعاني من أزمة اقتصادية وركود اقتصادي تعمل على تخفيض الضرائب لديها ولا تعمل على زيادتها، لأن زيادتها في ظل ركود اقتصادي سوف يعمّق من حدة الركود، وعلى سبيل المثال لا الحصر ليس هناك في موازنة 2024 ضرائب على الأملاك البحرية التي تستطيع أن تدخل إيرادات للدولة، ولا على الكسارات، ولا على معامل الرمل، ولا على الأرباح الكبيرة لرؤوس الأموال ولا ضرائب تصاعدية، وبالتالي لا بنود حقيقية إصلاحية في الموازنة تسمح بأن يكون هناك أفق للحل، بل لحظت ضريبة على بعض الرسوم العقارية وعلى تراب البناء والباطون، فرفع الضرائب على قطاع العقارات يعني المزيد من الركود الاقتصادي في هذا القطاع الذي من الممكن أن يكون رافعة للاقتصاد اللبناني، في ظل قطاع مصرفي وتأمين منهار. كما تضمنت زيادة للرسوم تتراوح بين 10 و200 مرة. في المحصلة لا تبدو هذه الموازنة سوى مشروع تسيير أعمال يقوم على تحصيل الايرادات والقروض لتستطيع الحكومة دفع التزاماتها، وبالتالي هذه الموازنة ستؤدي إلى المزيد من الركود الاقتصادي وليس إلى المزيد من النمو. علماً أنه لا ضمانات ملموسة بأن لا تلجأ الحكومة إلى سلفة الخزينة والإنفاق خارج الموازنة. إنها محاولة لتجميل الواقع والقول إن الدولة لن تستدين.

هذا ليس مستغرباً على طبقة سياسية فاسدة، ما عدا قلّة قليلة تحفر الجبل بالإبرة، وعلى الرغم من انتقاداتها لم تستطع أن تغيّر كثيراً، وما كُتِبَ قد كُتِب. ويلفت الاقتصادي روي بدارو الى أن الموازنة في لبنان لم تتغيّر بالشكل منذ 20 عاماً، وهي تتبع نموذج الموازنات الفرنسية في خمسينيات القرن العشرين. ويمكن وصفها بموازنة عدم المحاسبة وعدم الشفافية، وكان يجب أن يسبقها توحيد سعر الصرف الذي أصبح كرة نار تتقاذفها المصارف والبرلمان والحكومة والشعب منذ العام 2019، إضافة إلى “الكابيتال كونترول”، ولو تمّ ذلك، لكانت الأمور أسهل حتماً.

لا شك في أن من يدفع الثمن اليوم هو المواطن اللبناني بسبب سعر الصرف، ويؤكد بدارو أن المواطن فقد 90 في المئة من قدرته الشرائية، وخصوصاً أن الأسعار تضخمت وتجاوزت سعر الصرف، لذلك انعكاسات هذه الموازنة سيئة للغاية، وسيدفع ثمنها الشعب اللبناني هجرة وعدم مساواة، فيستفيد البعض على حساب البعض الآخر، ولو حصل ارتفاع في الناتج المحلي، سيكون على حساب الأكثرية البائسة.

واللافت أن الضرائب والرسوم التي تضمنتها الموازنة قبل التعديلات غابت عنها وحدة المعايير فبعضها رفعت قيمته 10 أضعاف كرسوم السير، ورفعت قيمة سواها 40 ضعفاً كبعض رسوم الطابع المالي، وتمّ رفع البعض الآخر 180 مرة كالرسوم على المواد الكحولية المنتجة محلياً. ولم تكتف بذلك، إنما فرضت ضرائب على الاقتصاد الشرعي، أي الرواتب والأجور وعلى المؤسسات المنهكة. لكن لجنة المال والموازنة ألغت الضرائب المتعلقة بالرواتب والأجور، لأنه يترتّب على العامل تسديد فواتير عالية من كهرباء واتّصالات وإنترنت، ولو كُرّست الضرائب على الرواتب والأجور لكان ذلك سيشكّل عبئاً على الناس ولن يستطيعوا تغطية كلفتهم المعيشية.

لا يرى بدارو، على الرغم من هذه التعديلات، أي أمل، ويصفها بالتعديلات التجميليّة أو “الماكياج”، مشيراً إلى أنه لا يمكن أن ننتظر من هذه الطبقة الفاسدة أي اصلاح ضريبي، فهي ليست دولة قانون، وعلينا الاعتراف أولاً بأن المشكلة سياسية في عمقها وليست اقتصادية، ولن يكون أمام الفقراء إلا حلّين: الشحاذة أو الهجرة.

لا ينكر بدارو أن الأمور تحسّنت قليلاً عن العام 2019، بعدما تأقلم الناس، وتوجّه القطاع الخاص نحو الدولرة، إنما كان يجب أن يترافق ذلك مع رفع الحد الأدنى للأجور إلى 250 دولاراً، مع إعانات تتجاوز المئة دولار، لكن الطبقة الحاكمة لا نيّة لديها لمساعدة الناس وتحسين أوضاعهم.

ويذهب بدارو إلى أبعد من ذلك، ليتكلّم عن جوهر المشكلة التي تتعلق بالسياسة، ويعطي مثلاً أن الجمارك مثلاً تهيمن عليها فئة من الناس معروفة باستقوائها، وبالتالي هناك من يدفع رسوم الجمرك والبعض لا يدفع، فلبنان يستورد بما لا يقل عن 20 مليار دولار في السنة، فلو استوفينا 15 في المئة قد تؤمّن لنا 3 مليارات دولار، عندها لا يعود صعباً توزيع مليار دولار لمساعدة الفقراء نقداً. وهذا ما تفتقده الدولة المهترئة أي الحوكمة، وقد أوصلتنا إلى الحضيض.

أما عن الاستثمارات فيقول بدارو: “لا ثقة لأي رأسمالي بالاستثمار في لبنان طالما لا وجود للقضاء، فكيف سيحصّل حقوقه إذا وقع أي خلاف؟”.

من هنا، لا بد من الإقرار بأن هذه الموازنة كانت مشروعاً للهروب إلى الأمام، لأن الطبقة الحاكمة تُكابر، ولا تريد أن تعترف بأن المشكلة سياسية، وتتهرّب من المحاسبة، والخير لقدام!

شارك المقال