‎من السيد إلى الملثم

عاصم عبد الرحمن

عكف جمهور “حزب الله” والمقاومة على ترداد عبارة: “إلى حيفا، وصدقوني إلى ما بعد حيفا وإلى ما بعد بعد حيفا” منذ العام 2006 وحتى العام 2023 إلى أن طغت عليها إثر انفجار “طوفان الأقصى” عبارة: “إنه لَجهاد… نصرٌ أو استشهاد”، شعاران مقاوِمان وَسَما خطابات كل من حسن نصر الله وأبي عبيدة وباتا يُتداولان بصورة مكثفة لا بل أصبحا مصطلحات للقوة والعنفوان والوعيد دخلت في أدبيات النقاشات السياسية على الصعيدين العربي والاسرائيلي، فهل انتقلت شعلة الزعامة المقاوماتية من السيد إلى الملثم؟

السيد: أسطورة تفقد سطورها

أكثر من سياسي وديبلوماسي وكاتب خرج من لقاء الأمين العام لـ “حزب الله” حسن نصر الله بانطباع يسوده الذهول جراء الدهشة والاعجاب بتواضع سيد المقاومة وسرعة بديهيته وثقافته الواسعة ونكتته الجاهزة التي يطلقها بابتسامة صافية ترخي بظلالها على الضيف الغارق في رهبة زعيم مالئ الدنيا وشاغل الناس من عدو وحليف إلى خصم وصديق. شخصية استثنائية تحولت خطاباتها إلى مواد سائلة على ألسنة الجمهور خصوصاً الاسرائيلي منه الذي بات يرددها بصورة مكثفة ما جعل القادة الصهاينة يدركون أهمية الحرب النفسية في الموازاة مع إطلاق القذائف وشن الغارات وإراقة الدماء وذلك وفق ما تداوله الاعلام العبري إبان حرب تموز 2006 وما بعدها، فقد قال الناطق باسم الجيش الاسرائيلي حينها العميد آفي بنياهو: “إنَّ حزب الله سبق الجيش الاسرائيلي في الحرب النفسية وان حرب لبنان الثانية شكلت تحولاً في القدرة على الحفر في ذاكرة العدو”.

تمكَّن نصر الله إذاً، من نقش كلماته في عقول العدو واحتلَّ هواجسه عبر استخدام سلاح الكلمة ونبرة الصوت وحركة الجسد والتميز بشيء خاص به جعل منه أيقونة المقاومة وأسطورتها، فهو الذي حارب العدو الاسرائيلي وجرَّ سمعته في شوارع الانكسار بعد هزيمة العرب ونكستهم في حربَيْ الـ 1967 والـ 1973، وها هم وجدوا فيه مَنْ انتقم لخيبة نفوسهم مدة سنين طوال إلى أن وقعت الواقعة ولم يكن لوقعتها كاذبة، ففي 7 أيار 2008 اجتاح “حزب الله” بيروت مدينة العرب وقبلتهم السياحية والثقافية وصنّف سيد المقاومة ذلك اليوم بالمجيد، ما دفع بسيدة مصرية إلى الصراخ في إحدى التظاهرات المنددة بأحداث 7 أيار للتعبير عن خيبتها بتوجيه الحزب ونصر الله بندقيتهما نحو الداخل.

واقعة أخرى أصابت العرب بخيبة جديدة وهي تحدي السيد بعدم تسليم المتهمين باغتيال رفيق الحريري ولو بعد 300 عام لا بل جعل منهم قديسين، واستكمل مسيرته “الخيبوية” في الوقوف إلى جانب نظام بشار الأسد وقتل الشعب السوري الثائر منذ العام 2012.

الملثم: حكاية مجد تُكتب

فقدَ العربُ الباحثون عن قائد عظيم يحمل قضيتهم على كتفيه تماماً مثلما فعل الزعيم القومي العربي جمال عبد الناصر الذي تمكَّنَ بحنكته السياسية ودهائه غير المسبوق من إزالة رجس واقعة النكسة عام 1967، زعيماً عربياً كبيراً ناطقاً باسمهم وحاملاً لواء قضيتهم إلى أن بزغ فجر 7 تشرين الأول 2023 وظهر ملثمٌ بكوفية فلسطينية رافعاً إصبعه معلناً انطلاق عملية “طوفان الأقصى” ضد العدو الصهيوني ما تزال رحاها تدور في ميدان الحق حتى اليوم، إنه الناطق باسم “كتائب القسام” أبو عبيدة الذي شكَّل تعويضاً كبيراً عن القائد العربي الذي تفتقده الأمة لكن هذه المرة محارب من قلب المعركة، محاربٌ ارتفعت صوره ذات السبابة المرتفعة في معظم أرجاء الوطن العربي وملأت كلماته سطور اللافتات المنتشرة في كل مكان حيث يقف الأمل عند قارعة انتظار ميلاد نصر جديد.

أبو عبيدة وعلى الرغم من ظهوره للمرة الأولى في العام 2006 إلا أنَّ هالته الكبرى ارتسمت مع بدء معركة “طوفان الأقصى” واكتسب شهرة قلَّ نظيرها بالنظر إلى نبرة صوته الواثق ودقة إلقائه الخطابي واختياره للمفردات المستخدمة في إطلالاته الاعلامية وبلاغته الفريدة في اللغة العربية، بالاضافة إلى لغة يديه ورفع سبابته بصورة إنفعالية عفوية لا شك في أنها تخدش أمان العدو. لم يعد أبو عبيدة مجرد ناطق إعلامي باسم “كتائب القسام”، إنما بات نجماً عربياً مقاوِماً مناضلاً تخطت شهرته حدود العالم، هذا العالم التواق إلى مَنْ يشفي غليل قلبه المنتفخ جراء استبداد العدو الصهيوني وألم وقوف معظم العالم إلى جانبه. ففي العالمَيْن العربي والاسلامي وصولاً إلى آسيا وأوروبا وإفريقيا وحتى أميركا اللاتينية أصبح الملثم رمز القضية وأيقونة المقاومة وصوتها الذي يخاطب أحرار العالم، تماماً كما يتوجه إلى العدو الصهيوني والاسرائيليين الذين باتوا ينتظرونه ليقدم لهم رواية أكثر مصداقية من تلك الإحاطة العسكرية شبه اليومية التي يقدمها الناطق العسكري باسم الجيش الاسرائيلي دانيال هاغاري الذي يضطر في كثير من الأحيان إلى الرد على ما يقوله أبو عبيدة نظراً إلى ارتكاز الاعلام العبري على معلوماته الميدانية وبياناته العسكرية التي تعترف بها الحكومة الاسرائيلية لاحقاً.

زعامة على طريق القدس

يدور نقاشٌ عميقٌ اليوم حول تمكُّن أبي عبيدة من إزاحة نصر الله عن العرش الجماهيري العربي خصوصاً المؤيدون لحركات المقاومة والداعمون للقضية الفلسطينية والمؤمنون بها بالنظر إلى ترجمة خطاب الأول قولاً وفعلاً ومن قلب الميدان في حين أنَّ الآخر بقيَ أقرب إلى الشعارات.

في هذا السياق يقول المتخصص في السياسات العربية الصحافي المصري حامد فتحي لـ “لبنان الكبير”: “إنَّ أبا عبيدة احتلَّ مكانة إعلامية كبيرة خلال الحرب الأخيرة على غزة طغت على مكانة الأمين العام لحزب الله حسن نصر الله بفعل عوامل عدة أبرزها الدور الايجابي الذي يؤديه أبو عبيدة بالنسبة الى إشباع التطلعات الاعلامية للمؤيدين لحركة حماس والقضية الفلسطينية بصورة عامة، في مقابل دور غير إيجابي في السياق نفسه لنصر الله الذي رُفضت خطاباته من الجمهور نفسه كونه لم يقبل بمعظمه في أقل من إعلان الحزب الحرب على إسرائيل لإشباع رغباته النابعة من العجز”.

ويضيف فتحي: “اكتسب أبو عبيدة جمهوراً أكبر من جمهور نصر الله لأن المذهبية هي في صالح الأول وليست في صالح الأخير، فضلاً عن أن قطاعاً كبيراً من جمهور أبي عبيدة المؤيد للمقاومة يرفض الحزب وأمينه العام على خلفية دوره في سوريا، بالاضافة إلى أن حركة حماس هي صاحبة الحدث الآن وليس حزب الله ولهذا دور مؤثر جداً”.

أما الاعلامي السياسي والصحافي الجزائري خالد بوفكان فيقول لـ “لبنان الكبير” في السياق نفسه: “ليس لحسن نصر الله شعبية واسعة في المغرب العربي وهناك نقاط عدة يختلف فيها عن أبي عبيدة سواء من ناحية الظهور الاعلامي أو الخطاب الموجه بالاضافة إلى التركيز على شق معين في خطابه. فمثلاً خطاب أبي عبيدة موجه وواضح ومحدد ويتناول القضية الفلسطينية وما تحققه كتائب القسام من نتائج على الأرض إبان عملية طوفان الأقصى وسط عودة قوية وإعادة انتشار عالمي للقضية الفلسطينية في ظل تواتر الصور اللاإنسانية التي يتم رصدها من غزة”.

يضيف بوفكان بالقول: “إنَّ مدة ظهور أبي عبيدة لا تتجاوز الـ 10 دقائق في حين أن نصر الله يمتد ظهوره لساعتين تقريباً متناولاً قضايا ومحاور عدة وربما هذا يشتت المتابع، ثم إن نصر الله يعتمد في خطابه دائماً أسلوب التهديد وهو غالباً ما لا يُترجم على الأرض”.

ويختم بوفكان: “إن عدم كشف أبي عبيدة عن هويته وملامحه زاد من شعبيته وأصبح لدى معظم العالم فضولاً للتعرف عليه أكثر وربما هناك مَنْ ينتظر إماطة اللثام عن وجهه”.

نكتةٌ بات يرددها الصغار قبل الكبار وهي أنَّ “حزب الله” لا يقصف إلا العمود في حين أن هؤلاء الصغار أنفسهم وقبل الكبار ينتظرون ظهور أبي عبيدة الشخصية الغامضة والأكثر تأثيراً حول العالم على الرغم من عدم انتشار اسمه الحقيقي. بوجه ملثم وبزة عسكرية يزينها علم فلسطين احتل أبو عبيدة قلوب العالم، ففي الشهر الماضي توقف المشاركون في مؤتمر ثقافي في الكويت للاستماع إلى كلمته، وحين طلبت زوجة رئيس وزراء العدو الاسرائيلي من زوجها زيارة والدتها مازحها بالقول “إنَّ عليها استئذان أبي عبيدة”.

شارك المقال