“تكويعة” جنبلاط… الى أين؟

جورج حايك
جورج حايك

يمر لبنان في أصعب الظروف السياسية وأكثرها تعقيداً، ولعل حركة رئيس الحزب “التقدمي الاشتراكي” السابق وليد جنبلاط ومواقفه تُعتبر الأكثر جدلاً وغموضاً، فهو انتخب مرشحي المعارضة ميشال معوض ثم جهاد أزعور في الجلسات الانتخابية التي عقدت خلال العام 2023، ولم يتخلَّ عن الحوار مع “حزب الله”، نظرياً يؤيد فريق الممانعة في ما يخص القضية الفلسطينيّة وعملياً لا يريد أن يتورّط لبنان في حرب مع اسرائيل. يستقبل رئيس تيار “المردة” سليمان فرنجية في عشاء عائلي، ولا ينتخبه رئيساً في المجلس النيابي!

انه أسلوب جنبلاط الذي يبدو للوهلة الأولى محيّراً وينقّز فريق المعارضة، لكن هذه التناقضات سرعان ما تصبح أكثر وضوحاً عندما تتكلّم مع مسؤولي الحزب “التقدمي الاشتراكي”، ويذكّرون بأن التواصل مع “الحزب” ليس جديداً وهو قائم منذ فترة طويلة تحت عنوان “تنظيم الاختلاف”، وجنبلاط يتفق معه على أمور معينة ويختلف معه على أمور أخرى.

أما العلاقة مع فرنجية فيصفها مسؤولو “الاشتراكي” بأنها لا تحتمل التأويل والذهاب إلى تكهّنات غير واقعية، ويضعونها تحت عنوان التأكيد على الروابط التاريخية بين جنبلاط وفرنجية والتواصل مع الشخصيات التي يختلف معها. وبالتالي لا جديد في هذا الموضوع الذي أُعطي أبعاداً أكثر مما يحمل.

لكن المصادر الاشتراكية التي تعترف بأنها لم تصوّت لفرنجية سابقاً، تعتبر أن كلام جنبلاط الجديد حول عدم ممانعته إنتخاب فرنجية مرتبط بالتوافق، وتؤكّد أن لبنان يحتاج إلى تفاهمات بين القوى السياسية لانتخاب رئيس. لذلك يؤيّد جنبلاط الحوار الذي دعا إليه رئيس مجلس النواب نبيه بري، ويضع اللوم على المعارضة عموماً و”القوات اللبنانية” خصوصاً لرفضهما مسألة الحوار، وهذا ما ينطبق على “التيار الوطني الحر”، وفق المصادر الاشتراكية.

لا تتفق مصادر المعارضة مع جنبلاط لأن الحوار الذي يدعو اليه بري هو لغم يستهدف الدستور، ففي التجربة أثبتت طاولات الحوار منذ العام 2006 إلى اليوم أنها مسرحيات مكشوفة سرعان ما ينقلب فريق الممانعة على نتائجها، علماً أنه في الدستور، تحصل الانتخابات الرئاسية في البرلمان ومحاولة تكريس عرف “طاولة الحوار” فعل انقلابي على الدستور، وهدف الفريق الممانع من خلال هرطقة “الحوار” للبتّ في الانتخابات الرئاسية بعيداً عن الآليات الديموقراطية، إلغاء دور المجلس النيابي تمهيداً لالغاء دور بقيّة المؤسسات الدستورية.

وترى المعارضة أنه بعد كل التعطيل للإنتخابات الرئاسية، تُكرّس المشاركة في حوار كهذا نهج الدويلة والميليشيات على حساب الدولة والمؤسسات، فالدستور واضح وينص على جلسة انتخابية بدورات متتالية، ويجب إحترام الدستور!

في المقابل، تلفت مصادر “الاشتراكي” إلى أن الحوار ليس من سينتخب رئيساً، بل سنذهب إلى المجلس النيابي للإنتخاب، ومن يتكلّم بهذا المنطق ذهب إلى الحوار مع الرئيس بري ليمدد لقائد الجيش العماد جوزيف عون. وتتساءل “ما الفرق بين الحوارات الثنائية وحوارات الطاولة المستديرة؟ ومن يضمن أن الحوارات الثنائية ستصل إلى نتيجة؟ علماً أنه لا يمكن أن تضمن نتائج أي حوار، ولو كان ذلك، فلا داع لأيّ حوار فليسمحوا لنا، نحن لا نرى أي فرق!”.

وتعتبر مصادر “الاشتراكي” أن لبنان بلد مركّب ومعقّد، وكل شيء فيه يحتاج إلى تفاهمات، إلا أن هذا لا يعني أن هذا المسار يجب أن يكون بديلاً عن المسار الدستوري الديموقراطي.

لا يبتعد جنبلاط عن تشخيص بري حول مسألة وجود مأزق مسيحي -مسيحي في عملية انتخاب رئيس للجمهورية، وتشدد المصادر الاشتراكية على أن المأزق وطني ويطال الجميع في الدرجة الأولى، إلا أن هذا لا ينفي وجود اشكالية مسيحية – مسيحية بالدرجة الثانية، فالمسيحيون مختلفون، ولو كانوا متفقين على مرشح واحد يمكنهم عندها إقناع الآخرين به، من الواضح أن الخلاف المسيحي أثّر على الانتخابات الرئاسية.

لكن مصادر المعارضة تستغرب موقف “الاشتراكي” حول الخلاف المسيحي، لأن “القوات اللبنانية” وحلفاءها من جهة تقاطعوا مع “التيار الوطني الحر” من جهة أخرى ورشّحوا جهاد أزعور ونزلوا إلى المجلس النيابي وانتخبوه وحاز أصواتاً أكثر من مرشّح الممانعة لكن نواب الثنائي الشيعي خرجوا من الجلسة وأفقدوها نصاب الثلثين ما منع النواب من الانتقال إلى الدورة الثانية، وبالتالي تؤكد المصادر أن الخلاف ليس مسيحياً، وهذا ما نضعه في خانة الهروب إلى الأمام، علماً أن كتلة جنبلاط نفسها انتخبت أزعور عملياً.

من جهتها، تشير مصادر “الاشتراكي” إلى أن تقاطع التكتلين النيابيين المسيحييين الكبيرين حول جهاد أزعور كان تكتيكياً، فلو كان خياراً حقيقياً، لوافق التكتلين المسيحيين على الذهاب بهذا المرشّح إلى الحوار مع الأطراف الأخرى، فيضعاه على الطاولة مقابل سليمان فرنجية ويتفاوضا عليه. إلا أنه كان تقاطعاً ظرفياً من باب التكتيك في وجه الثنائي الشيعي لقطع الطريق أمام سليمان فرنجية، وهذا لا يجعل منه خياراً سياسياً والقتال من أجله.

عادة ترصد رادارات جنبلاط التطورات الاقليمية وانعكاساتها على الوضع اللبناني، ما يبرر تموضعاته السياسية، وليس واضحاً إذا كان ينتظر تسوية كبرى لانتخاب رئيس، لكن مصادر “الاشتراكي” تدعو إلى “عدم انتظار أي تسوية كبرى لا نعرف موعدها، وعلينا التفاهم داخلياً، لا أحد يستطيع أن ينتظر”.

بعد لقاءات جنبلاط المنفتحة على الفريق الممانع يتساءل كثيرون عن التنسيق بينه وبين المعارضة، إلا أن مصادر “الاشتراكي” تشبّه علاقته بالمعارضة بكهرباء لبنان أي متقطّعة، وتعتبر أن فريق المعارضة غير متماسك ولا يملك مشروعاً ورؤية وخطة واحدة. في المقابل، تقرّ المصادر بأن الفريق الممانع يتمسّك بمرشحه وتبقى أوراقه قوية، لذا لا رئيس من دون توافق! بل يؤكّد “الاشتراكي” أن لا بديل عن الحوار، وترى أن المصالحة مع “القوات” تطلبت 10 أعوام من الحوارات حتى وصلت إلى التفاهم حول ثوابت معيّنة.

من جهة المعارضة، فهي لا تعتبر “اللقاء الديموقراطي” جزءاً من المعارضة، بل تتعامل معه على قاعدة “التقاطع”، علماً أن هذا التقاطع حصل سابقاً حول مرشحين معوض وأزعور، والأخير كان من بين الأسماء التي اقترحها وليد جنبلاط شخصياً.

وتتفهم مصادر المعارضة تموضع جنبلاط خارج الاصطفافات السياسية، لكنه عملياً يسير بخيارات المعارضة ونظرياً لا يريد أن يتمظهر بهذا الشكل ليترك لنفسه مساحة يتحرّك فيها، وهو منذ عام 2014 خرج من تحالف 14 آذار ولا يريد العودة إلى الاصطفافات، ويريد أن يكون على مسافة واحدة من الجميع.

لا تجد المعارضة في تصرفات جنبلاط أي تحدٍ بل على العكس، فقد أكد وجهة نظر المعارضة بحواره مع “الحزب”، ونتائجه المخيّبة للآمال، وأثبت ما تقوله المعارضة بأنه لا يريد رئيساً للجمهورية إلا بشروطه، ولا يريد “الخيار الثالث”، وجنبلاط نفسه خاض مسألة الحوارات الثنائية وكان جزءاً منها.

وتؤكّد المعارضة أن حواره مع “الحزب” شأنه وتلبيته دعوة الرئيس بري للحوار شأنه كذلك. ولقاؤه مع فرنجية لا يخيفنا ولا يغيّر شيئاً لأنه لا يختلف عن لقائه مع حسين خليل المعاون السياسي لحسن نصر الله، ويأتي في هذا السياق.

ولم تنقطع لقاءات جنبلاط مع قوى المعارضة، فهو لم ينفتح على فريق الممانعة ليقفل الحوار مع الفريق الذي تقاطع معه على أكثر من محطة.

في المحصّلة، تلفت مصادر المعارضة إلى أنها تنطلق من قوتها وقدراتها واصرارها على موقفها، فتحترم جنبلاط وهوامش تحركاته، إلا أنها لا تقبل المساومة في الموضوع الرئاسي.

ولا يمكن لجنبلاط الابتعاد عن العمق العربي وتحديداً الموقف السعودي، وهو يُدرك حقيقة الخيار السعودي الذي يؤيّد الخيار الثالث في الملف الرئاسي ولا يريد انتصار ايران أو هزيمتها في لبنان، وبالتالي لا يذهب جنبلاط مع الممانعة إلى الآخر ولا مع المعارضة إلى الآخر، ويحاول أن يكون متوازناً ومتناغماً مع الموقف السعودي.

شارك المقال