صحافيون عالقون يروون تجربتهم: غزة تختفي أمام أعيننا

لبنان الكبير

يخاطرون بحياتهم كل يوم وكل دقيقة بعيدين عن منازلهم التي اضطروا الى مغادرتها… ثمانية موظفين في “فرانس برس” لا يزالون يعملون لتأمين التغطية في قطاع غزة على الرغم من الظروف المأسوية التي يعيشونها منذ 7 تشرين الأول. يروون كيف أصبح عملهم اليومي محفوفاً بالخطر والخوف تحت القصف وفي ظل موت يحيط بهم في كل مكان، لكنّهم تحدّثوا أيضاً عن تصميمهم على مواصلة توثيق الحرب المتواصلة منذ أربعة أشهر بين حركة “حماس” وإسرائيل في قطاع غزة.

قبل 7 تشرين الأول، غطّى صحافيو الوكالة في غزة ست حروب. كان الحصار جزءاً من حياتهم اليومية منذ نحو 17 عاماً، وقد اعتادوا قيود التنقل والحرمان والمشارح والجنازات. لكن بعد الهجوم الذي شنّته حركة “حماس” على إسرائيل، انقلبت حياتهم رأساً على عقب.

يروي عادل الزعنون الذي يعمل صحافياً في وكالة “فرانس برس” في غزة منذ 30 عاماً: “قرابة الساعة السادسة صباحاً، كنت في الخارج وسمعت أصوات قصف بدت كأنها تأتي من كل مكان. بدأنا نتساءل ما إذا كان ذلك قصفاً إسرائيلياً أو إطلاق صواريخ من جانب حماس”.

ويضيف: “اتصلت بجميع زملائي في الوكالة وقررنا أن نأتي جميعنا إلى المكتب (…). على الطريق، اتصلت بجميع الناطقين باسم حركتي حماس والجهاد الاسلامي. جميعهم قالوا لي إنهم لا يعرفون شيئاً”.

ويتابع: “في النهاية، قال لي أحدهم: ستصدر كتائب القسام (الجناح العسكري لحركة حماس) بياناً”. بعدها، أعلن بيان لقائد القسام محمد الضيف أن عملية “طوفان الأقصى” بدأت.

بعد أربعة أشهر من بدء الحرب، يعمّ الدمار قطاع غزة البالغة مساحته 365 كيلومتراً مربعاً وأصبح الوضع الانساني فيه كارثياً. ردّاً على الهجوم، تنفّذ إسرائيل قصفاً مدمراً من دون هوادة، أتبع منذ 27 تشرين الأول بهجوم بري داخل القطاع. ويقارب عدد القتلى الفلسطينيين في القطاع 28 ألفاً، وفق وزارة الصحة التابعة لـ “حماس”.

لا يتردّد صحافيو “فرانس برس” في التوجّه إلى مواقع القصف. في كل مرة، يواجهون الألم والمعاناة، وفي بعض الأحيان غضب الناجين. كما يشعرون بالرعب إزاء الجثث المشوهة التي غالباً ما تكون عائدة لأطفال والتي يفترض أن يصوروها أو يصفوها بالكلمات.

ويروي محمد عبد، المصوّر في الوكالة في غزة منذ 24 عاماً: “عندما يكون الاتصال بالإنترنت متوافراً، نتحدث عبر مجموعات صحافيين على واتساب لنخبر بعضنا عن موقع القصف. عندما يكون مقطوعاً، نحاول أن نجد طريقنا من خلال ملاحقة الضجة والناس”.

وأصبح الذهاب في سيارة لإعداد التقارير تحدياً حقيقياً. مع وجود أكثر من مليوني نازح، معظمهم اليوم في رفح في جنوب قطاع غزة، “هناك زحمة سير في كل مكان، ونحتاج إلى التسلل بين أفواج النازحين والخيام التي نصبت في وسط الشوارع والأكشاك المنتشرة في كل مكان والأحياء التي أصبحت ركاماً”.

ويوضح عادل الزعنون “قد يصل سعر لتر البنزين إلى 45 دولاراً. لذلك نفضّل في بعض الأحيان أن نمشي ساعة بدلاً من استخدام السيارة لأننا لا نعرف ما إذا كنا سنجد الوقود في اليوم التالي، وقد تكون أمامنا رحلة أهم للقيام بها”.

وترسل التقارير والصور التي يجمعها الفريق الى مكتب الشرق الأوسط وشمال إفريقيا في الوكالة في نيقوسيا، حيث يتم تحريرها وتدقيقها قبل بثها لوسائل الاعلام في كل أنحاء العالم.

في بداية الحرب، ظلت “فرانس برس” لفترة طويلة تؤمن بثاً مباشراً من داخل مدينة غزة. وكان ذلك مستحيلاً لو لم يعمل أحمد عيسى، التقني في مكتب الوكالة في غزة، على الرغم من الخطر والفوضى، على تركيب ألواح شمسية لتزويد المكتب بالكهرباء على مدار ساعات اليوم بعد انقطاع التيار في القطاع. وسمح ذلك بتشغيل كاميرا للنقل المباشر على مدى أسابيع طويلة، حتى بعد مغادرة الصحافيين. وسمح لهم أيضاً بشحن بطاريات كاميراتهم وهواتفهم. وعيسى هو العنصر الوحيد في الفريق الذي تمكن من مغادرة غزة في نهاية كانون الثاني.

“كل شيء يختفي تحت القصف”

بعد أربعة أشهر، أصبح الارهاق واضحاً. يقول الزعنون: “نحن نعمل منذ أربعة أشهر 24 ساعة في اليوم، لكن علينا القيام بذلك لأننا نشاهد غزة تختفي أمام أعيننا”.

ويضيف: “المنازل والتراث التاريخي يدمَّران، الضحايا يسقطون، كلّ شيء يختفي تحت القصف الاسرائيلي. لا يوجد مكان آمن (…). رأيت أطفالاً يخرجون تحت القصف للبحث في حاويات النفايات عن قطعة خبز ليأكلوا. كانت شفاههم متشققة، ويظهر بوضوح أنهم لم يشربوا الماء منذ فترة طويلة”.

وتشاطره مي ياغي، مراسلة الوكالة في غزة منذ 16 عاماً، شعوره بالعجز والارهاق. عندما حصل تشكيك في حصيلة القتلى في غزة التي تعلنها “حماس”، ذهبت إلى المستشفيات لفهم الطريقة التي تقوم بها وزارة الصحة التابعة للحركة في إحصاء القتلى. واطلعت بالتفصيل على النظام المعلوماتي المستخدم لتسجيل ضحايا الحرب: القتلى في خانة والمتوفون لأسباب طبيعية في خانة أخرى. وأعدّت موضوعاً عن ذلك.

وبالتالي، يدفع الصحافيون في بعض الأحيان إيجارات أعلى بخمس مرات من غيرهم لإسكان عائلاتهم.

اتصالات يومية مع المعسكرين 

ويبدو في بعض الأحيان أن الشكوك تنشأ من حقيقة بسيطة هي أن الصحافيين في غزة على اتصال منتظم مع مسؤولي “حماس”. لكن هذه الاتصالات لا مفرّ منها، كما يوضح عادل الزعنون. فكل يوم، تعلن الحكومة الاسرائيلية وحكومة “حماس” عمليات جديدة وحصيلة قتلى جديدة وتتبادلان الاتهامات والتهديدات. ويتوجّب على وكالة “فرانس برس” أن تحاول بصورة منهجية الحصول على رد المعسكر الآخر، وهو شرط أساسي للاستحصال على معلومات متوازنة ومحايدة. 

ويوضح الزعنون الذي بدأ العمل في غزة في وقت كان القطاع تحت سيطرة السلطة الفلسطينية بقيادة حركة “فتح” أن “هناك عدداً قليلاً من الصحافيين في غزة، ولم يعد هناك الكثير من المسؤولين أيضاً، لذلك فهو عالم صغير حيث ينتهي المطاف بجميعنا الى معرفة بعضنا البعض”.

في المقابل، لا اتصال مع الجناح العسكري لحركة “حماس”. ويقول الزعنون: “إنهم منضبطون جداً ولا يتحدّثون إلا عبر البيانات الصحافية”.

“انقلبت حياتي”

ويضع كل ذلك صبر الصحافيين على المحك. فمنذ تركوا منازلهم في تشرين الأول، نام الصحافيون في بعض الأحيان في سياراتهم، وفي أحيان أخرى تحت خيام نصبت في باحة مجمع ناصر الطبي في خان يونس في الجنوب.

اليوم، يتكدّس جميع صحافيي “فرانس برس” في منزل في رفح مع عائلاتهم، ويبلغ عددهم 50 شخصاً في المجموع. يمضون وقتهم خارج ساعات العمل في البحث عن ماء للشرب أو طعام، أو في غسل الملابس القليلة التي أخذوها معهم والتي غالباً ما تكون مغطاة بغبار الأنقاض، بأيديهم.

وتقول مي ياغي: “انقلبت كل حياتي. أصبحت مشردة ولا أشعر بالأمان. النوم والأكل والشرب والاستحمام، كل ذلك أصبحت له حسابات في الأشهر الأخيرة. حالياً، نرضى بالاستحمام بمياه باردة مرة كل أسبوع على الأقل على الرغم من برودة الجو”.

وتضيف: “مئة يوم بدون ساعة واحدة من الخصوصية على الاطلاق. أقصى أحلامي الآن أن أجلس ساعة واحدة من دون سماع أي صوت. ساعة واحدة أشرب فيها القهوة وأدخن السجائر… لا صوت قصف ولا بشر ولا زنانة ولا شيء”.

فقدت ياغي جيراناً وأصدقاء وأقارب، لكنها تؤكد أن “مشاعري حتى الآن مجمدة. لا وقت للحزن، لو فعلت ذلك سأنهار لأنهم كثر. يجب أن أبقى قوية. لدي مسؤوليات أخرى. يجب أن أتظاهر بأن كل شيء على ما يرام حتى يطمئن من حولنا، أكانوا محاصرين في غزة أو من يحبوننا في الخارج”.

ويقول محمد عبد: “جفّت دموعنا حرفياً. الآن أعمل مثل الروبوت: أخرج وأضغط على الزر (الكاميرا) وبعدها لا أعود أرى شيئاً بعد كل الصدمات والبكاء والحداد (…). لكن تكفي لحظة واحدة أجلس فيها أو أستلقي لكي يمر شريط أحداث اليوم أمام عينَي. نحن متوترون طوال الوقت لأننا بالاضافة إلى كل ذلك، نأكل القليل ونشرب مياهاً غير صالحة للشرب”.

ويشير يحيى حسونة الى أن “جميع الصحافيين يعانون اضطراب ما بعد الصدمة. في غزة، إذا قال لكم شخص ما إنه بخير، كونوا أكيدين أنه يكذب. كل ما رأيناه وكل ما صوّرناه سيطبع في ذاكرتنا إلى الأبد، لن ننساه أبداً”.

البحث عن الأقارب

بالنسبة إلى الجميع، فإن البعد عن الأقارب والأحباء أمر لا يحتمل. عادل الزعنون لا يكف عن التفكير بوالدته وأشقائه الذين لم يتمكنوا من مغادرة مدينة غزة.

أما بالنسبة إلى مي ياغي، فكانت “أقسى اللحظات” عندما اضطرت الى أن تترك ابنها جاد البالغ 11 عاماً يرحل بمفرده. وكانت ابنتها الكبرى غادرت قبل اندلاع الحرب بفترة وجيزة للدراسة في بريطانيا حيث لا تزال موجودة.

وتقول إنه على الطريق المؤدية إلى معبر رفح على الحدود المصرية، كان “كل همي أن أطمئنه بأنني سألحق به قريباً. أخبرته بأنه بطل وسيكون بأمان مع موظفي السفارة وبأن والده وخالته بانتظاره في القاهرة”.

وتختم قائلة: “رفض السفر وتركي في البداية، لكنني أقنعته بضرورة ذلك. وعدته بأنني سأكون بخير لكنه لم يصدقني. حضنني كأنها المرة الأخيرة وطلب مني أن أقسم بأنني سألحق به. ليست لدي أي فكرة اليوم متى سأرى ولديّ. لا أريد إلا شيئاً واحداً: أن أحضنهما مجدداً بين ذراعي”.

شارك المقال